فلسطين أون لاين

الضفة وارتباك الحسابات الإسرائيلية

الضربة المهينة التي تلقّتها الحكومة الإسرائيلية الأكثر تطرّفاً في تاريخ الكيان الصهيوني، في العملية التي نفذت شرقي القدس في 27 كانون الثاني/ يناير 2023؛ كانت رسالة واضحة للاحتلال بأن تصعيد إجراءات القمع والتهويد ضدّ الأرض والإنسان في فلسطين، لن يزيد أبناء شعبها إلا صمودًا وثباتًا وتعزيزًا للعمل المقاوم.

عملية خيري علقم ابن الـ21 عامًا، وابن القدس المعروف برباطه في المسجد الأقصى، التي أدت حسب الاعتراف الرسمي للاحتلال إلى مقتل سبعة مستوطنين وجرح نحو عشرة آخرين، أربكت الحسابات الإسرائيلية، بعد أن أصابتها حالة من الغرور والنشوة في إثر اقتحام قواتها مخيم جنين واغتيال تسعة من أبنائه في 26 كانون الثاني/ يناير 2023، إذ جاءت هذه العملية في اليوم التالي لاقتحامها.

هذا يعني ببساطة أن نحو 75 عامًا من إنشاء الكيان، و56 عامًا من احتلال الضفة الغربية، لم تنجح في تطويع الشعب الفلسطيني ولا تركيعه، وأن الأجيال الشابة تتناول الراية وتزداد عنفوانًا وإصرارًا، فبعد عشرين عامًا من احتلال الضفة ظهر جيل أطفال الحجارة في الانتفاضة (1987-1993)، واستلم جيل شابٌ من بعده في انتفاضة الأقصى (2000-2005)، ثم جيل شاب ثالث في انتفاضة القدس (2015-2017)، وهكذا، هذا إضافة إلى الأجيال الشابة التي تنتجها المقاومة في قطاع غزة.

في السنة الماضية 2022 تصاعدت المقاومة كثيرًا في الضفة الغربية، وتميّزت العمليات بأن معظمها عمليات فردية وأن المُنفِّذين هم في ريعان الشباب، وقد أدت هذه العمليات في سنة 2022 إلى مقتل 31 مستوطنًا وجرح 116 آخرين، وهذه الظاهرة هي استمرار للظاهرة التي برزت خصوصًا في انتفاضة القدس التي تميّزت بالعمليات الفردية والإسهام الفعّال للفتيان والشباب من الجنسَين، وكانت حصيلتها مقتل 57 مستوطنا وجرح 416 آخرين بحسب معطيات الأجهزة الأمنية الإسرائيلية.

من ناحية ثانية، فإن الحديث عن انتشار العمليات الفردية يحمل مدلولين، الأول: أن جميع أدوات القمع المنظم والتنسيق الأمني بين سلطة رام الله وقوات الاحتلال، فشلت في القضاء على ظاهرة المقاومة، وإن نجحت إلى حد كبير في ضرب العمل العسكري لفصائل المقاومة وتفكيك الكثير من خلاياها، وأن الاستعدادات الذاتية للعمل العسكري المقاوم وللتضحية والمبادرة منتشرة في الوسط الفلسطيني الشعبي وفي العقلية والثقافة الفلسطينية، والثاني: أن فصائل المقاومة فضلت في أحيان عديدة عدم تبني عمليات نفذها أفراد منتمون لها أو محسوبون عليها، لاعتبارات ترى في محصلتها أن ذلك أفضل وأسلم في المرحلة الحالية.

من ناحية ثالثة: فإنه من الواضح اتساع حالة الغضب والإحباط تجاه سلطة رام الله وقيادتها، وهي حالة متصاعدة في جميع الأوساط الشعبية والطبقات والفئات الاجتماعية. وقد انعكست هذه الحالة قويًا في استطلاعات الرأي العام، كما انعكست في أوساط الحاضنة الشعبية للسلطة (حركة فتح)، إذ يعبّر الكثيرون من أبناء فتح عن استيائهم من أداء السلطة أو يتبرأون من سلوكها الأمني، في حين تتسع من جديد مظاهر تفعيل كتائب شهداء الأقصى التابعة لفتح، غير أن على قواعد فتح أن تحدد بدقة مواضع أقدامها، فلا تكون قلوبها مع المقاومة وسيوفها مع السلطة، وعليها ألا توفر لقيادة السلطة شبكة الأمان التي تحتاجها لمواصلة تنسيقها الأمني وقمعها لقوى المقاومة، والمضي في أوهام التسوية السلمية.

من المتوقع، من جهة رابعة: أن تتصاعد إجراءات القمع الإسرائيلية، وستسعى حكومة الاحتلال الأكثر تطرفًا للوصول إلى أقصى درجة من برامج القمع والتهويد، واستكشاف أعلى سقف ممكن لتنفيذ برنامجها مع الحرص على تجنب وقوع انتفاضة واسعة في الضفة، أو حرب شاملة مع غزة، والحرص على تفعيل دور السلطة الوظيفي وعدم انهيارها، وعدم انهيار أو تعطّل برامج التطبيع مع البيئة العربية والإسلامية. أما الذي يمكن أن يفشل المخططات الإسرائيلية ويجبرها على التراجع، فهي المقاومة، ولا شيء غير تصعيد المقاومة.

ولذلك، ومن ناحية خامسة: فإن المقاومة ما تزال تواجه تحديات كبيرة في الضفة الغربية، أبرزها التنسيق الأمني بين سلطة رام الله والاحتلال، فوفق إحصاءات الاحتلال نفسه ادعى أنه تمكن من إحباط نحو 450 عملية للمقاومة في سنة 2022؛ وهي عمليات كان لكثير منها أن تتم لولا تعاون السلطة الأمني مع الاحتلال.

وثمَّ مخاطر حقيقية من أن يستفرد الاحتلال ببؤر المقاومة في جنين ونابلس، في ظل بيئة الاحتلال وضعف الإسناد اللوجيستي، وعدم صعوبة محاصرة البؤر، والقدرة على اقتحامها وإنهاكها بين حين وآخر.

ولذلك، فإن استمرار المقاومة في الضفة وتصعيدها، يحتاج إلى مزيد من توسيع الحاضنة الشعبية لها ودعمها بجميع المتطلبات، وسيكون تحويل الوضع في الضفة إلى انتفاضة شاملة هو البيئة الأفضل لعمل المقاومة، كما يحتاج إلى متابعة الضغط على السلطة (خصوصاً من قواعد فتح نفسها) للتوقف عن التنسيق الأمني وغض الطرف عن العمل المقاوم، ويحتاج من جهة ثالثة تصعيدًا إعلاميًا وتعبويًا في البيئات العربية والإسلامية والدولية، وكشف وجه الاحتلال البشع في كل البيئات بما يعطل مساراته التطبيعية، وبما يعزله ويحوّله إلى حالة منبوذة مرفوضة لاحتلال بغيض آن له أن يزول.

المصدر / عربي 21