تحمل القرارات والإجراءات التي اتخذتها الحكومة الإسرائيلية في أعقاب موجة عمليات المقاومة الأخيرة في القدس والضفة الغربية طاقة كامنة تسمح بانفجار مواجهة شاملة في جميع ساحات الوجود الفلسطيني داخل فلسطين التاريخية.
فقد قرر المجلس الوزاري الإسرائيلي المصغر لشؤون الأمن إغلاق وتدمير منازل منفذي العمليات واعتقال عائلاتهم وزيادة وتيرة البناء في المستوطنات اليهودية في القدس والضفة وتشريع البؤر الاستيطانية التي دشنها المستوطنون من دون إذن حكومة الاحتلال وجيشه، وتمكين المزيد من المستوطنين من حمل السلاح.
لكن مما لا شك فيه أن أخطر القرارات هي تلك التي اتخذها الوزراء المنتمون لقوى اليمين الديني المتطرف، حيث رأى هؤلاء الوزراء أن هذه العمليات تسمح بتبرير اتخاذ خطوات تهدف إلى تحقيق هدفهم الرئيسي المتمثل في حسم الصراع مع الشعب الفلسطيني.
فبناء على تعليمات وزير الأمن القومي إيتمار بن غفير بدأت شرطة الاحتلال تدمير منازل فلسطينية في القدس المحتلة بحجة أنها شُيدت من دون ترخيص. وأقدم بن غفير على خطوة أخرى ذات طاقة تفجير عالية تتمثل في اتخاذ قرارات تهدف إلى التضييق على الأسرى الفلسطينيين في سجون الاحتلال؛ حيث تعرضت الأسيرات الفلسطينيات إلى عمليات قمع وحشية دفعتهن إلى إشعال النار في الزنازين؛ فضلا عن قراره وقف تزويد الأسرى في سجنين كبيرين بالخبز، بحجة أن الحصول على الخبز "رفاهية" لا يستحقها هؤلاء الأسرى.
لم يكتف ممثلو اليمين الديني بذلك، بل سارعوا إلى سن قانون يسمح بمصادرة حقوق المواطنة والإقامة من كل فلسطيني من سكان القدس والداخل الفلسطيني في حال شارك في عملية للمقاومة. إلى جانب ذلك، فإن الحكومة الإسرائيلية تبحث حاليا عن توفير مخارج قانونية تسمح بطرد عائلات منفذي العمليات من الضفة الغربية إلى قطاع غزة.
وتشير كل الدلائل إلى أن سياسة القبضة الحديدية التي تبنتها الحكومة الإسرائيلية لن تنجح في احتواء حالة المقاومة في الأراضي المحتلة، فضلا عن أن اعتماد هذه السياسة يمكن أن ينعكس سلبا على الواقع الاقتصادي والاجتماعي في (إسرائيل) ذاتها.
فقد جاءت موجة عمليات المقاومة تحديدا بعد أن بلغت عمليات القمع الإسرائيلي مستويات غير مسبوقة، كما عكست ذلك مجزرة مخيم جنين؛ مما يعني أن هناك علاقة طردية بين زيادة مستويات القمع والجرائم التي يرتكبها الاحتلال وبين تعاظم الدافعية لدى الشباب الفلسطيني للانضمام إلى دائرة الفعل المقاوم.
إلى جانب ذلك، فإن جميع القرارات والإجراءات الأمنية التي اتخذتها الحكومة الإسرائيلية لن تؤثر من ناحية عملية على نجاح عمليات المقاومة في المستقبل؛ فجميع العمليات التي نُفذت مؤخرا فردية، ومن الصعب جدا على مخابرات الاحتلال أن تحصل على معلومات مسبقة يمكن أن تساعد على إحباطها قبل تنفيذها، بخلاف العمليات التي تنفذها خلايا تنتمي إلى تنظيمات.
في الوقت ذاته، فإن أكثر العمليات قوة نُفذت مؤخرا في منطقة القدس التي تخضع لسيطرة (إسرائيل) المباشرة، وفي ظل حالة استنفار أمني كبير؛ مما يعني أن تنفيذ المزيد من عمليات المقاومة يرتبط بمستوى الدافعية لدى الشباب الفلسطيني أكثر مما يرتبط بإجراءات (إسرائيل) الأمنية.
إن زيادة مستويات قمع الاحتلال يمكن أن تدفع الشباب الفلسطيني في مناطق ذات موقع جغرافي حساس وثقل ديموغرافي كبير إلى تنفيذ عمليات بشكل يغيّر واقع المواجهة؛ فالقوى الأمنية الإسرائيلية تعبر عن خشيتها من انضمام مدينة الخليل تحديدا -تحت وقع تأثير عمليات تدمير المنازل الواسع الذي تعكف عليها (إسرائيل) في منطقة "مسافر يطا" جنوب المدينة- إلى دائرة العمليات الفردية على نطاق واسع.
تمتاز الخليل -التي تعد أكبر مدن الضفة الغربية من حيث تعداد السكان، مثل جنين- بقربها من الخط الأخضر، وسهولة الانتقال منها إلى المدن الإسرائيلية، لا سيما مدينة "بئر السبع"، فضلا عن أنها محاطة بعدد كبير من المستوطنات.
في الوقت ذاته، فإن قرارات الحكومة الإسرائيلية يمكن أن تفضي إلى انهيار السلطة الفلسطينية، حيث إن زيادة وتيرة عمليات المقاومة وردات فعل (تل أبيب) غير المتناسبة معها؛ يمكن أن تخرج الكثير من مناطق الضفة الغربية من تحت سيطرة هذه السلطة. وفي حال تحقق هذا السيناريو، فإن (إسرائيل) ستتحمل المسؤولية عن إدارة وتمويل القطاعات الخدماتية في الضفة الغربية، مع كل ما ينطوي عليه الأمر من تبعات اقتصادية ومخاطر أمنية.
إن التصعيد في الضفة واستهداف الأسرى يزيدان فرص اندلاع مواجهة مع حركات المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة التي عدّت المس بالأسرى -وتحديدا الأسيرات- خطا أحمر لا يمكنها التسليم بتجاوزه؛ حيث عبرت عن ذلك بإطلاق قذائف صاروخية بهدف التحذير من مغبة مواصلة هذا النهج.
ومن الواضح أن القرارات التي اتخذتها الحكومة الإسرائيلية ضد فلسطينيي الداخل مؤخرا يمكن أن تسرع اندلاع مواجهة مع هذا القطاع المهم من الشعب الفلسطيني، لا سيما قرار اقتطاع مساحات واسعة من أراضي النقب عبر التشجير، فضلا عن تقديم مشروع قانون يلغي الاعتراف بالشهادات الجامعية التي تصدرها الجامعات الفلسطينية في الضفة الغربية التي تخرج فيها الآلاف من فلسطينيي الداخل، مما يعني إسدال الستار أمام هؤلاء من أجل إيجاد فرص عمل داخل المؤسسات الإسرائيلية.
وبهذه القرارات تدفع الحكومة الإسرائيلية نحو تفجير ساحات المواجهة وتوحيدها في الضفة وقطاع غزة ومناطق تواجد فلسطينيي الداخل.
ومما يزيد الأمور تعقيدا حقيقة أن (إسرائيل) تواجه موجة عمليات المقاومة في ظل انقسام داخلي وصدع مجتمعي غير مسبوق في أعقاب السياسات التي تبنتها حكومة نتنياهو، وتحديدا على صعيد الإصلاحات القضائية؛ مما يقلص مستوى الشرعية الداخلية التي تحظى بها إجراءاتها لمواجهة المقاومة. فقد اتهمت بعض النخب الإسرائيلية بنيامين نتنياهو بأنه دفع نحو ارتكاب مجزرة جنين من أجل التأثير على اتجاهات الجدل الداخلي وفرض أجندة أمنية تقلص قدرة المعارضة على مواصلة تنظيم المظاهرات الاحتجاجية ضد سياساته.
في الوقت ذاته، ونظرا لأن جميع الوزراء الذي يمثلون قوى اليمين الديني المتطرف إما أنهم لم يؤدوا الخدمة العسكرية أو خدموا فترة قصيرة، ولأن الأغلبية الساحقة من مؤيدي هذه القوى يتم اعفاؤهم من الخدمة العسكرية، فإن قطاعات واسعة من الجمهور الإسرائيلي ترى أنه لا يحق لهذه القوى أن تدفع الحكومة نحو تنفيذ عمليات عسكرية يمكن أن تسفر عن مقتل وجرح جنود في وقت لا يتحمل فيه ممثلوها وجمهورها عبء الخدمة العسكرية.
ليس هذا فحسب، بل إن تفجر الأوضاع الأمنية سيفاقم الأوضاع الاقتصادية بفعل زيادة النفقات الأمنية في ظل مؤشرات على أن (إسرائيل) ستدفع أثمانا باهظة جراء سياسات نتنياهو على الصعيد الداخلي مما سيقلص مستوى الشرعية التي تحظى بها سياسات الحكومة تجاه الشأن الفلسطيني. فقد تزامنت قرارات الحكومة بشأن الرد على عمليات المقاومة مع إعلان عدد من الشركات الرائدة انسحابها من السوق الإسرائيلي احتجاجا على سياسات الحكومة الداخلية، مثل شركة "بيبيا جلوبال" كبرى شركات التقنية، وشركة "فيربت" ثاني أكبر شركات التأمين.
ما تقدم لا يعني أن حكومة نتنياهو ستعيد تقييم خطواتها وتغيير إستراتيجيتها القائمة على التصعيد؛ فقوى اليمين الديني المتطرف تدفع هذه الحكومة نحو ردود كبيرة وغير متناسبة على عمليات المقاومة، ليس بفعل توجهاتها الأيديولوجية فقط؛ بل أيضا تحت وطأة اعتباراتها السياسية؛ إذ إن قواعدها الانتخابية تطالبها بأن تطبق ما تعهدت به خلال حملاتها الانتخابية، لا سيما على صعيد مواجهة عمليات المقاومة.
ويلعب الموقف الأميركي دورا مهما في تعزيز دافعية (إسرائيل) لمواصلة التصعيد؛ فحسب ما كشفه موقع "والا"، فقد طالب وزير الخارجية الأميركي أنتوني بلينكن رئيسَ السلطة الفلسطينية محمود عباس خلال لقائهما في رام الله بتطبيق خطة أمنية أعدها الجنرال الأميركي مايك فنزل تهدف إلى تجفيف بيئة المقاومة في جنين ونابلس باستخدام القوة.
اللافت أن بلينكن ضغط على عباس لتطبيق هذه الخطة من دون أن يتعهد بإلزام (إسرائيل) -على الأقل- بتقليص أنشطتها العسكرية في هاتين المدينتين.
إن ما تقدم يدلل على أنه رغم أن سياسات (إسرائيل) لمواجهة العمليات الفردية ستفضي إلى نتائج عكسية ولن تفلح في إخمادها، ورغم إسهام هذه العمليات في الحفاظ على روح المقاومة؛ فإنها -في الوقت ذاته- توظف من قبل الحكومة الإسرائيلية في اتخاذ قرارات تهدف إلى تكريس حقائق على الأرض، لا سيما على صعيد الاستيطان والتهويد ومحاربة الوجود الفلسطيني.
من هنا لا يمكن أن تكون العمليات الفردية بديلا عن توافق الفلسطينيين على برنامج وطني شامل لمواجهة الاحتلال يضمن انتقالهم من مرحلة الصمود إلى تحقيق نجاحات عملية على صعيد إفشال مخططات الاحتلال الهادفة إلى حسم الصراع.