شكّل الظهور العسكري العلني لمقاومي "عقبة جبر" في محافظة أريحا شرقي الضفة المحتلة مفاجأة صادمة لجيش الاحتلال ومنظومته الأمنية التي اعتقدت حتى وقت قريب أن محافظة أريحا بعيدة نسبيًّا عن المقاومة المتصاعدة في مدن وبلدات الضفة المحتلة، وأن بإمكانها تنفيذ الاقتحامات والاعتقالات للفلسطينيين دون معيقات تُذكر.
الاشتباكات العنيفة التي خاضها مقاومو كتائب القسام، وارتقاء خمسة منهم شهداء دون استسلام أو إلقاء للسلاح إنما تمثل صفحة متجددة من التضحية والنضال الفلسطيني المتواصل منذ عقود، والنموذج الفلسطيني المشابه للشباب الثائر في جنين، وعرين الأسود في نابلس، وهي النماذج التي يخشى الاحتلال وصولها إلى كل المدن والبلدان في الضفة المحتلة، كما أن جريمة احتجاز جيش الاحتلال جثامين الشهداء الأبطال لن تدفع المقاومة الفلسطينية للاستسلام، بل ستضاعف من إصرارها على زيادة غلتها من الجنود الأسرى في قبضتها خلال المرحلة المقبلة.
من ناحية أخرى فإن عدوان الاحتلال المتواصل على أريحا، وفرض الحصار المشدد، والعقوبات الجماعية لأكثر من عشرة أيام على أهالي أريحا، بالإضافة لكونه يمثل انتهاكًا صارخًا لأبسط الحقوق الإنسانية، والمواثيق الدولية، فإنه يأتي ضمن سياسة الاحتلال العدوانية المتواصلة ضد الفلسطينيين، تارة بهدم المنازل في القدس، وحرمان أهالي المقاومين من مصادر رزقهم، وتارة بمصادرة أراضي المواطنين وهدم المنشآت في الضفة المحتلة، كما أنه يمثل امتدادًا لسياسة حصار غزة، وحرمان أهلها من حرية التنقل والحركة، وهي سياسات عقيمة لطالما فشلت في كسر إرادة وعزيمة الشعب الفلسطيني.
كما أن وقوع اشتباكات مسلحة بين المقاومين والاحتلال في أريحا، والإعلان عن الشباب الثائر في "عقبة جبر" يمثل إضافة نوعية للمقاومة في هذه المنطقة التي تحاذي الحدود الفلسطينية الأردنية، وتعد منطقة استراتيجية للمشروع الاستيطاني الصهيوني، وتعج بالمستوطنات التي تهدف إلى عزل الفلسطينيين عن المنطقة الحدودية، والاستيلاء على مواردها الطبيعية، بمعنى أن تنامي المقاومة في هذه المنطقة تحديدًا يشكل ضربة كبيرة للمشروع الصهيوني، لذا فإن منظومة الاحتلال بأكملها تداعت للقضاء على ظاهرة المقاومة في هذه المنطقة من الضفة المحتلة على وجه الخصوص.
كما أن نجاح المقاومة في تنفيذ عملية إطلاق النار على تجمع للمستوطنين قرب أريحا قبل عشرة أيام شكّل هاجسًا للمستوطنين الصهاينة، وأكد أن تكلفة الاستيطان في الضفة ارتفعت بشكل كبير، وأن تنقل المستوطنين بين مستوطنات الضفة أصبح غير آمن، بل ويشكل عبئًا إضافيًّا على جيش الاحتلال ومنظومته الأمنية، ومن غير المؤكد للاحتلال أن اغتيال شهداء عقبة جبر اليوم سوف يوقف تنامي المقاومة التي تصاعدت بشكل كبير رغم ضربات الاحتلال في المدة الأخيرة.
ربما الهاجس الأكبر لدى الاحتلال هو استنساخ تجربة مخيم جنين والبلدة القديمة في نابلس، وانتقالها للعديد من المدن والبلدات في الضفة، وهي احتمالية بدت شواهدها تتعاظم وتطفو على السطح مع كل عملية اقتحام في الضفة المحتلة، حيث بات جيش الاحتلال يواجه دفاعًا مستميتًا وصلابة كبيرة من رجال المقاومة الفلسطينية، ما يمثل تهديدًا وجوديًا للمشروع الاستيطاني في الضفة.
اللافت أن تنامي ظهور رجال المقاومة مؤخرًا في الضفة المحتلة يأتي في ظل تراجع سيطرة الأجهزة الأمنية الفلسطينية على بعض البلدات والمدن في الضفة، ونكوصها عن القيام بواجبها في الدفاع عن الشعب الفلسطيني، وصد عدوان الاحتلال المتواصل على مدار الساعة، ولسان الحال أن تلك الأجهزة ينحصر دورها في التنسيق الأمني مع الاحتلال وملاحقة رجال المقاومة، وهذا ما أشار إليه المقترح الذي قدمه وزير الخارجية الأمريكي "أنتوني بلينكن" خلال لقائه مؤخرًا مع رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس، ويقضي المقترح بحسب موقع "أكسيوس" الأمريكي بمنع اشتعال انتفاضة في الضفة المحتلة، وتشكيل قوة أمنية فلسطينية بتمويل أمريكي تعمل على محاربة المقاومة الفلسطينية في محافظتي نابلس وجنين، وهي وصفة أمريكية إسرائيلية لحرب أهلية فلسطينية، وإضافة إلى كونها غير قابلة للتطبيق في ظل الواقع الجديد في الضفة، فإنها أيضًا تسيء بشكل كبير للسلطة الفلسطينية وتُظهرها أمام الفلسطينيين وكيلا أمنيا تابعا لجيش الاحتلال يعمل على حماية المشروع الاستيطاني في الضفة المحتلة.
ختامًا ومع دعوتنا لقادة السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية بالتحلُّل من الالتزامات الأمنية المعيبة التي تخدم استمرار الاحتلال، والانخراط في مقاومة الاحتلال، فإننا نثق بأن المستقبل للمقاومة، وأن اشتباكات أريحا ما هي إلا حلقة في سلسلة المواجهة المتواصلة مع الاحتلال، وأن اغتيال المقاومين لن يكسر إرادة الشعب الفلسطيني، بل سيؤدي إلى اشتعال الثورة الفلسطينية التي نرى أنها مقبلة لا محالة في الضفة والقدس، وسائر الأرض الفلسطينية المحتلة.