يعد الفلسطيني الذي يتَّكئ على ذراعه لتسنده ينتظر معجزة "فزعة" الأشقاء، فقد ألقوه في غيابة الجبِّ على أمل أن يأكله الذئب، أو يلتقطه بعض السيَّارة، أو يموت جوعاً وعطشاً، فيرتاحوا منه ومن قضيته، مرّة واحدة وإلى الأبد، ليتفرّغوا لتلميع الكراسي، وبناء القصور والضياع وتنمية الأرصدة في الملاذات الآمنة، والنوم على أكتاف الحلفاء الذين تعهدوهم بالتربية والحليب منذ كانوا أجنَّة في بطون أمهاتهم.
لم يبقَ للفلسطيني الذي عاش على الوهم سنين إلّا أن يلوذ بدمه، حائطه الأخير، ليبحث عن حياة أخرى في السماء، بعد أن تحوّلت حياته الدنيا إلى جحيم مشتعل، يتفنّن المحتل في جعلها قطعة من العذاب، فامتطى جرحه واستلّ منه حبالاً من الدم ليخنق بها عدوّه، ويموتا معاً، ليحيا من يبقى منهما في ملحمة طويلة، سيكون فيها الانتصار لصاحب الحقّ بالتأكيد، حتى ولو طال أمدها، فمن يلوذ بدمه ويموت ليحيا، أكثر قدرة على الصبر والتحمّل ممن هو أكثر حرصاً على حياة، أي حياة، حتى ولو كانت في ظل ملجأ، أو بندقية.
في معادلة الموت والحياة، والاحتلال، يثور السؤال الكبير: من يحتلّ من، إذا كان المحتلّ مضطرّاً إلى حمل سلاحه، حتى وهو ذاهب إلى البقالة لشراء حاجياته اليومية خوفاً من انفجار لغم بشري، ظن الجميع أنه استمرأ العمل في بناء بيوت من يحتل أرضه، بل ذهب خيال المشعوذين إلى أبعد من هذا، حينما حاكوا أساطير عن بيع صاحب الأرض للغريب، وتلك حكايةٌ لها علاقة ببائعة الهوى التي تتمنّى من صويحباتها أن ينخرطن جميعاً في بيع أجسادهن، فهي المنغمسة في وحل الخطيئة لا تطيق رؤية الطاهرات العفيفات، وتتمنىّ أن تراهن كلهن وقد تلطّخت أجسادُهن بالسواد.
حتى تلك اللغة الكاذبة التي كانت تنطلق على ألسنة إخوة يوسف، في كل مرّة جاؤوا أباهم بدم كذب، تدين الذئب وجرائمه، لم يعد الفلسطيني يحظى بها، فقد ساوى أشقّاؤه بين القاتل وضحيّته، وسادت الدعوة إلى "وقف العنف" باعتبارها اختزالاً يمسخ قصة الصراع بين الحقّ والباطل، الخير والشر، وأي عنفٍ هذا الذي يدعون إلى وقفه؟ عنف الدم الذي تحوّل إلى ملاذ أخير يدافع به الفدائي الصغير عن دفتر الرسم خاصته، الذي تدوسُه بساطير المجنّدات القادمات من مواخير أوروبا؟
وحتى حينما ينهض فلسطيني آخر في شتاته المرّ، فيخطّ كلمة مديح لـ"شهيد" على حائط رقمي، يُستفز "الأشقّاء"؛ فيطلقون كلابهم على صاحب المفردة الطاهرة، ليرموه بتهمة "دعم الإرهاب"، وذاك كابوسٌ لم يكن الفلسطيني يتخيّل أن يعيشه حيًّا، بل تحوّلت قوانين الأشقّاء أنفسهم إلى جنازير وقيود لتكبيل حلم أي حالمٍ بحياة حرّة، فيها شيءٌ من الكرامة، فأصبح دعم الشهيد، ولو بكلمة أو تنهيدة جريمة، تعاقب عليها قوانينهم القراقوشية، وقد كانوا من قبل أن ينضو كذبهم يتغنّون بدعم قضية فلسطين، ليتبيّن أن هذا الدعم كان يسعى إلى دفنها، حتى وهي حية، وكانت أسلحتهم مجرّد لعب أطفال، لإيهام الدهماء بأنهم يقاتلون دفاعاً عن الأرض المقدّسة، وهم في الحقيقة منهمكون في إغراقها بالنجاسة، وزراعتها بالشياطين.
لم يعد أشقاء يوسف يخجلون حتى من المشاركة في حفلات التنكيل بأخيهم، فلم يتركوا طريقاً يفتّ في عضده وينهكه إلا وسلكوه، وفي كل مرّة كان يحاول القيام متّكئاً على ذراعه قطعوها، فهم لا يريدون لهذا الليل أن ينجلي، ولا يريدون لنموذج حرٍّ حيّ أن يعيش، كي تحلم بقية قطعانهم بالحرية، مطلوبٌ أن يصطفّ القطيع كله على أبواب المذبح انتظاراً لإهراق دمه، وأي محاولة "آثمة" للخروج من "الصف" تعني تهديداً لسلطانهم، وسلطاتهم، مطلوبٌ أن يموت أخوهم سحقاً وقهراً، كي لا يصبح نموذجاً يستلهم الزاحفون على بطونهم من بطولته حلماً يقوّض "الاستقرار" في بلاد الدكتاتور العربي.
لقد أعلنوا جهاراً، بعد أن عملوا سرّاً على قتله، أنّ "شقيقهم" عنصر "عدم استقرار"، وحتى "إرهابي" ينتمي إلى "كيان معادٍ"، يتعيّن نبذه وسجنه وتعذيبه، ولم يكن هذا الكيان الذي هُيِّئ لهم أنهم قتلوه وصلبوه ليتحوّل إلى عملاق يعيش في قلوب الملايين من الأحرار.
من كان يتخيّل أن يصبح "التحذير" من قيام انتفاضة ثالثة، مصطلحاً عربياً يجري بشكل طبيعي على ألسنة الأشقاء والأعداء سواء بسواء، وكأنها "لعنة" ستهدم المعبد على رؤوس الجميع؟ أعلن أشقاء يوسف انحيازهم الكامل للذئب، وتحوّلت المؤامرات السرّية على قتل شقيقهم إلى خطط وبرامج ومعاهدات وأحلاف علنية، وقوننوا خططهم السرّية لقتل الضحية مرّات ومرّات، فجرّموا كل محاولاتها للنهوض، وغدت "المقاومة" إرهاباً يستدعي العقاب، وتلك مرحلةٌ كان لا بد للوصول إليها، كي يعلم اللائذ بدمه أن هذا الدم ملاذه الأخير، وسلاحه الأخير، وقوّته الحقيقية التي لا يستطيع أحدٌ أن يسلبه إياه، فامتطاه ومات ليحيا، ويحيا من يأتي بعده، وتلك معركة، ولو طالت، نتيجتها محسومة، لو كانوا يعلمون.