أنهى الوفد الأمريكي برئاسة جاريد كوشنر جولته في المنطقة، من دون إحراز أي تقدم يذكر على المسار الفلسطيني – الإسرائيلي ... وبعد اللقاء الذي حمل الرقم 20 بين الرئيس عباس وموفدي إدارة ترامب، لم يتصاعد بعد الدخان الأبيض، لا من البيت الأبيض في واشنطن ولا من المقاطعة في رام الله ... جولة فضل أصحابها إطلاق سمة “الاستكشافية” عليها، لكأن تسعة عشر لقاءً سابقًا، لم تكن كافية لتكوين صورة واضحة عن مواقف الأطراف وأولوياتها.
ولكي لا يبدو أن “طريق السلام” مسدودًا وغير نافذ، فقد كان من الطبيعي أن يطلب إلى الفلسطينيين منح الإدارة مهلة عدة أشهر إضافية لتمكينها من إنجاز ملامح “صفقة القرن” التي وعد ترامب بها كل من التقاهم في واشنطن من المسؤولين في البلدان ذات الصلة ... لكأننا مرة أخرى، أمام لعبة “تقطيع وقت”، تخوضها الإدارة الأمريكية هذه المرة، باسم إسرائيل ونيابة عن نتنياهو وحكومته.
قبل بدء جولة كوشنر– جرينبلات –باول، كنا تحدثنا عن سلال كوشنر الثلاث الفارغة، السلة الأمنية الثقيلة التي عرضها على الفلسطينيين، والتي تذكر بما كان يفعله الجنرال كيت دايتون قبل 12 عامًا ... سلة اقتصادية لرشوة الفلسطينيين وتمكينهم من ابتلاع السلة الأمنية وضرب صفح عن المسار السياسي ... وسلة إقليمية تسعى في نسف مبادرة السلام العربية رأسًا على عقب، وتسويق التطبيع مع إسرائيل، كشرط مسبق لا للحل النهائي للقضية الفلسطينية، بل للتفكير بهذا الحل وإيلائه قدرًا من الاهتمام والرعاية.
في سياق الجولة، وقبل اللقاءات مع القيادتين الفلسطينية والإسرائيلية، كانت الناطقة باسم الخارجية الأمريكية هيدزنويرت تعلن من واشنطن، أن تبني واشنطن لحل الدولتين هو انحياز للجانب الفلسطيني، من شأنه أن يضر بدور “الوسيط النزيه” الذي تضطلع به الولايات المتحدة، متناسية مواقف الإدارات الأمريكية السابقة، وإجماع المجتمع الدولي، وقرارات الشرعية الدولية، التي اعتبرت حل الدولتين هو الأساس والإطار والمرجعية لحل أزمة الصراع الفلسطيني – الإسرائيلي.
بعد عشرين لقاء أمريكي – فلسطيني، أخفقت إدارة ترامب في إعلان موقف مؤيد لحل الدولتين ولو لمرة واحدة، رغم الإلحاح الفلسطيني والطلب العربي بهذا الشأن ... أمر أثار قلق القيادة الفلسطينية وإحباطها، ودفعها للتفكير بخيارات وبدائل أخرى، واستدعى تدخلات عربية من أجل ضمان بقاء رام الله على سكة المفاوضات والتسويات ... واشنطن تعرف أن خيار الدولة الواحدة ثنائية القومية، دونه “خرط القتاد” إسرائيليًا، وهي لم تعلن تبنيه له كذلك، ولكنها مع ذلك، ترفض حتى اللحظة إعلان التزام واضح بحل الدولتين.
الشيء ذاته ينطبق على موضوع الاستيطان، (إسرائيل) تسرع عمليات الاستيطان والتهويد والأسرلة، وتستقبل كل وفد أمريكي بوجبة استيطانية جديدة، آخرها كانت التوسعات في مستوطنة بيت إيل، المشيّدة على صدر العاصمة الفلسطينية المؤقتة (رام الله)، وبرعاية تاريخية من كوشنر وجرينبلات، فيما واشنطن ترفض إدانة الاستيطان، وتطلب من الفلسطينيين الكف عن مطالبتها بذلك، وتقدم “عذرًا أقبح من ذنب” لتبرير موقفها، بزعمها أن طلبًا كهذا لنتنياهو يمكن أن يفضي إلى انهيار الائتلاف وسقوط حكومته ... بقاء نتنياهو في الحكم، يبدو أنه أولوية أمريكية تتقدم على غيرها من الأولويات، ومع ذلك لا يعتبر هذا الموقف الأمريكي انحيازًا لـ(إسرائيل)، أو بالأحرى، لليمين الإسرائيلي، فيما التشديد على مرجعية حل الدولتين، يعتبر انحيازًا مرفوضًا للفلسطينيين، هل ثمة من ازدواجية في المعايير أكثر فداحة من هذه؟
كوشنر يستغرب موقف رام الله وبعض العرب القائل برفض التطبيع والمتحفظ على الإطار الإقليمي للحل، فهو يرى بعض العرب يهرولون نحو إسرائيل، ومن دون مقابل، ويسمع في بعض عواصمهم إطراءً لإسرائيل واستعدادًا للتعاون معها في مواجهة تهديدي إيران والإرهاب ... فلماذا لا يجري “ترسيم” الأمر، وإخراجه بمظهر احتفالي، أما البقية فتأتي لاحقًا، فالمسألة الفلسطينية ليست لها صفة الاستعجال، شأن بقية التهديدات التي تجتاح المنطقة وتتهددها.
ثلاثة أو أربعة أشهر أخرى من التأجيل، ننصح القيادة الفلسطينية، بألا تقضيها في وضعية الاسترخاء والانتظار، بل ملئها بالعمل على إنجاز الأجندة الوطنية الفلسطينية، إن لجهة إعادة بناء منظمة التحرير أو استكمال ملف المصالحة، أو التوجه للمنظمات الدولية، أو السعي في مطاردة إسرائيل إعلاميًا ودبلوماسيًا وحقوقيًا ... إسرائيل تحرز تقدما في استعادة علاقاتها وتأسيس علاقات جديدة على الساحتين الأفريقية والآسيوية، وتخترق مؤسسات الأمم المتحدة وأجهزتها، وهذا أمر يتعاكس مع الإنجازات الهامة التي تسجلها حركة المقاطعة “بي دي إس”، وعلى السلطة أن تعمل على مسارات متوازية ومتكاملة، لا أن ترجئ كل عمل مفيد بانتظار عودة كوشنر مرة جديدة للمنطقة، وغالبًا بسلاله الفارغة من جديد ... ومثلما لم يعد يرتجى شيئًا من “الشريك الإسرائيلي” في عملية السلام، فإن شيئًا لا يرتجى كذلك من “الوسيط” الأمريكي، الذي لم يكن يومًا وسيطًا ولا نزيهًا، حين يتصل الأمر بمصالح إسرائيل وحساباتها... الانحياز لتل أبيب ظل دومًا ديدن السياسة الأمريكية، لكنه مع إدارة ترامب، تحول إلى انحياز إلى اليمين الإسرائيلي المتطرف، وباتت مواقف الترويكا المولجة بالملف الفلسطيني، أكثر صهيونية وتطرفًا من مواقف الترويكا الحاكمة في إسرائيل ذاتها.