قرار فريد من نوعه أصدره رئيس السلطة محمود عباس الأسبوع الماضي بجباية شيكل واحد على كل فاتورة اتصالات (خطوط الهواتف النقالة، وخطوط الإنترنت، وخطوط الهاتف الثابت)، بدعوى أن هذا "الشيكل" سيوجه لدعم مدينة القدس المحتلة وسكانها، فهل هذه المبادرة من عباس تنمُّ عن الصحوة واليقظة المتأخرة جدًا اتجاه المدينة والمسجد الأقصى والمقدسات بصفة عامة، أم هي من باب رفع العتاب، للتغطية على التقصير الواضح من السلطة بحقها؟
وقبل الشروع في التفاصيل، أرغب في طرح هذا السؤال: هل للسلطة من سيادة على مدينة القدس وفق اتفاق أوسلو؟ لم يعد سرًّا أن قضية القدس حُيّدت تمامًا من الاتفاق، وأُجّلت مثل بقية القضايا الجوهرية للقضية الفلسطينية كقضايا اللاجئين والأسرى والحدود. ومنذ ذلك الحين تُركت القدس تحت مقصلة الضرائب الباهظة التي تفرضها سلطات الاحتلال على المقدسيين، إضافة إلى الاستيطان، والتهويد، وبناء الجدار، والتهجير القسري للمقدسيين، وسحب تراخيص البناء والهدم لمنازلهم وسرقة أراضيهم وممتلكاتهم، ناهيك بالاستفزازات الممنهجة من خلال الاقتحامات اليومية للمسجد الأقصى المبارك من المتطرفين الصهاينة.
اقرأ المزيد: "شيكل لدعم القدس".. تهكم وتساؤلات عن دور السلطة
بالعودة إلى جوهر الموضوع المتعلق بإعلان عباس عن صندوق دعم القدس الذي سيجبي لأجله شيكلًا واحدًا على كل فاتورة اتصالات شهريًّا، هو في حد ذاته استخفاف بعقول المواطنين، في ظل تعطيل المجلس التشريعي، واحتواء القضاء، وإنهاء شرعيته منذ 2009، فكل هذه الأمور لا تخوله لإصدار القرارات، فما بالك لو كانت مخالفة للقانون الأساسي.
على كلٍّ، القدس ليست بحاجة إلى أموال من المواطنين، لأن السلطة لديها موازنات خاصة للمدينة المقدسة أقرّتها الحكومة الفلسطينية مستندة إلى مواد من القانون الأساسي، لكنها بكل أسف بقيت حبرًا على ورق، كان آخرها قرار مجلس الوزراء برئاسة رامي الحمد الله (رقم 9) لسنة 2018 بالنظام المالي لدعم صمود المقدسيين.
الغريب في الأمر، إذا كانت السلطة لا تستطيع دفع شيكل واحد للمقدسيين، أو تنفيذ أي مشاريع تنموية في القدس، فعلى أي أساس يطلب عباس من المواطنين جمع الأموال للقدس؟ والسؤال الأكثر غرابة هو: هل القدس فعليًّا بحاجة إلى شيكل؟ وأين ستذهب هذه الأموال بعد جمعها من المواطنين؟ صحيح أن الشيكل الواحد هو مبلغ صغير، لكنه سيصبح مبلغ كبير على مدار السنة، فإضافة شيكل واحد على كل فاتورة اتصالات لعدد سكان الضفة والقطاع (5 ملايين)، معناه جمع أكثر من خمسة ملايين شيكل شهريًّا، أي بواقع 60 مليون شيكل سنويًّا.
إن قرار إضافة شيكل واحد على فاتورة المواطنين، لا يؤثر عليهم فعليًّا، وهذا أقل واجب يمكن أن يُقدَّم للمقدسيين، لكنه من ناحية المبدأ فإن القرار غير مقبول، لكونه نابعًا من وجود أزمة ثقة بين السلطة والمواطن، لا سيما في ظل الحديث المتواتر عن ملفات الفساد التي تضرب عمق السلطة منذ سنوات، كملف التعيينات، وتطعيمات كورونا وغيرها، إضافة إلى عدم وضوح تفاصيل أموال التبرعات لبعض المشاريع، كمشروع وقفة عز، ومشروع إنشاء مستشفى خالد الحسن للسرطان، ومشروع دعم صندوق التعليم في القدس، لمواجهة خطر أسرلتها ومساندتها في محاربة تحريف المنهاج المفروض من الاحتلال ووزارة المعارف الإسرائيلية، ومشروع إحياء أمانة القدس، ومشروع تشكيل بلدية لخدمة شرقي القدس، إلا أنها قوبلت بالرفض من السلطة، خوفًا من إثارة (إسرائيل)، هذا يدلل على أن السلطة الفلسطينية ليس لها أي سلطة فعلية على أرض الواقع في مدينة القدس، والسبب في ذلك اتفاق أوسلو الذي كان تنازلًا مجانيًّا للصهاينة عنها، وليس فقط بسبب قرار ترامب، وإذا كان غير ذلك، فلماذا لا تستطيع السلطة إجراء إنتخابات فيها، وقد أُلغيت العام الماضي بقرار من عباس تحت حجج واهية.
المشكلة التي تعانيها مدينة القدس ليس فقط في ضعف التمويل وغياب الدعم المالي الموجهة لها، بل يمتد إلى أبعد من ذلك، وهو عدم وجود نية حقيقية من السلطة لتنفيذ أي خطط لدعم المدينة المقدسة على غرار الخطط الإسرائيلية التي تضعها حكومة الاحتلال لتنفيذ سياسات التهويد والاستيطان، التي تدور رحاها منذ أكثر من عشرين عامًا، بما عرف بخطة 2020 لتهويد المدينة وبعد الانتهاء منها وضع خطة أخرى 2030 وأخرى 2050 كلها تحتوي على خطط لتهويد المدينة بمنهجية في ظل تقاعس كبير من السلطة بحق المدينة والمقدسيين.
أعتقد أن القدس على مدار العقود الثلاثة السابقة تُركت وحدها تواجه الأطماع الصهيونية، وأصبحت السلطة تتعامل مع القدس كملف إغاثي أكثر من كونها ملفًا سياسيًّا له استحقاقات مادية تستوجب لها رصد ميزانيات محددة، نظرًا لمعاناة المقدسيين ودعم جهودهم في مواجهة التحديات الصهيونية.