نشأت (إسرائيل) في ظل ظروف مواتية جدًا صاحبت إنشاءها بقرار أممي، وعلى النقيض تمامًا كانت الظروف التي مر بها الشعب الفلسطيني غاية في السوء أدت إلى عدم تحقق الشق الآخر من القرار الأممي الخاص بإنشاء دولة عربية، وقد واكب ذلك تشريد للشعب الفلسطيني في مأساة قلّما يشهد التاريخ مثيلًا لها، الظروف الميدانية التي صاحبت إنشاء الكيان أغرت قادته بتجاوز المساحة التي حددها القرار الأممي للدولة اليهودية وهي 15000 كم2 بما يمثل حوالي 58% من مساحة فلسطين التاريخية البالغة حوالي 27000 كم2 لتصل نسبة الأرض التي استولت عليها (إسرائيل) عقب حرب 1948م إلى 78% من مساحة كامل فلسطين، وفي المقابل لم تنشأ دولة فلسطينية عربية حتى على الجزء المتبقي من هذه الأرض، والتي كانت نسبتها 22%، ورغم هذا الضيم الشديد الذي لحق بالشعب الفلسطيني، فقد وافقت قيادة منظمة التحرير على إقامة دولة على حدود الرابع من حزيران لعام 1967م؛ أي نسبة الـ 22% المتبقية من الأرض التي أكملت احتلالها (إسرائيل) عام 1967م، إلا أن هذه الموافقة لم تُنفذ تلقائيًا على الأرض تطبيقًا ولو جزئيًّا أو متاحًا للقرار الأممي -قرار التقسيم- الصادر عام 1947م، إذ إن الولايات المتحدة والدول الغربية الداعمة لـ(إسرائيل) اشترطت أن توافق (إسرائيل) على ذلك وأن يتم ذلك من خلال مفاوضات بين الجانبين كانت بدايتها في مؤتمر مدريد عام 1990م، ولم تُسفر حتى اليوم ونحن في عام 2023م عن إقامة هذه الدولة، ولتبقى مسألة الوجود اليهودي والوجود الفلسطيني على أرض فلسطين بحاجة إلى حل وتكمن صعوبة الوصول لهذا الحل في أن كل فريق من الفريقين -ولست هنا بوارد الحديث عن الحق والباطل- ينظر إلى الآخر على أنه عدو يجب اجتثاثه، أو على أقل تقدير لا يعترف له بحقوق الشعوب المقرة في المواثيق الدولية وعلى وجه الخصوص الحق بتقرير المصير، لذلك حاولت الولايات المتحدة أن تفرض شكلًا من أشكال الحلول يميل بالتأكيد للجانب "الإسرائيلي"، ورغم ذلك تلكأت الحكومات "الإسرائيلية" العلمانية طوال المدة الماضية في تنفيذ حل الدولتين الذي "فرضته" الإدارة الأمريكية ووافق عليه الطرف الفلسطيني "كطرف مغلوب على أمره"، ولكن لم ير هذا الحل النور حتى الآن؛ نظرًا لأن جذور الصراع ما زالت هي الحاكمة لهذا الصراع، وهي الكامنة في وجدان كلا الفريقين المتنازعين، ليس خافيًا أن حل الدولتين وجدته الإدارة الأمريكية أفضل الحلول لبقاء (إسرائيل) أطول مدة من الزمن خصوصًا وأنها تعيش وسط محيط عربي الأصل أنه معادٍ لها بغض النظر عن موقف الحكومات، وكذلك وجود عربي فلسطيني على أرض فلسطين التاريخية بعضه يمثل خمس مواطني "إسرائيل" داخل أراضي الـ48، وبعضه الآخر يبلغ حوالي ستة ملايين في الضفة الغربية وقطاع غزة.
وتعرف جيدًا الإدارة الأمريكية أن السيطرة الإسرائيلية على الشعب الفلسطيني بالقوة العسكرية لا بد لها من نهاية، وهذه النهاية لا تنتهي إلا بأحد حلين إما عسكريًا وإما سياسيًا، ولما كان الحل العسكري (أي القضاء على إسرائيل بالقوة) مرفوض أمريكيا فالحل السياسي هو المتاح إذا ما تجاوزنا فكرة الترنسفير أو الاقتلاع التي لم تعد متاحة "لإسرائيل" عام 2023م كما كانت متاحة بل مواتية عام 1948م بل نفذت الحكومات الإسرائيلية جزءًا كبير منها، ولما كان الحل السياسي يجب أن يقوم وفق قواعد وأسس القانون الدولي الذي تمثله المنظومة الدولية فلا يمكن بحال من الأحوال أن تكون (إسرائيل) مقبولة بصفتها دولة فصل عنصري، وفي نفس الوقت لا يمكن أن تكون هناك دولة واحدة لمواطنين عرب ويهود متساويين في الحقوق والواجبات وإلّا أصبح اليهود أقلية فاقدة للحكم بعد مدة وجيزة من وجود مثل هذه الدولة.
اليمين الصهيوني المتحكم في زمام الأمور يرفض حل الدولتين ويرفض بالتأكيد حل الدولة الواحدة، ويأمل أن يصل إلى رؤية أو نموذج يكون الفلسطيني فيه مواطنًا بلا حقوق، وهذا أمر لا يمكن أن يتحقق أو يحدث سواء بموافقة الفلسطينيين أو حتى المجتمع الدولي رغم كل تحيزه لـ(إسرائيل).
أدرك القادة الصهاينة الأوائل هذه الحقيقة مبكرًا، فطرحوا قضية الوطن البديل مثل الأردن وسيناء، وقد ماتت هذه الطروحات في مهدها منذ الخمسينيات، ولذلك اتجه رابين ومن بعده شارون إلى العمل على حل الدولتين لعلمهما أنه السبيل الوحيد المتاح الذي يمكن أن يُبقي على وجود (إسرائيل) بموافقة الفلسطينيين أو جزء منهم على الأقل، ولكن لم تسعفهما الظروف لإكمال رؤيتهما وعاجلها القدر.
اليمين الصهيوني يسعى اليوم لإبقاء الشعب الفلسطيني ذي السبعة ملايين، الكائن بين البحر والنهر تحت سطوة الاحتلال العسكري دون أي أفق سياسي على اعتبار أن وجود دولة فلسطينية هي بداية زوال (إسرائيل)، ولكن هذه الوضعية أصبحت مستحيلة الاستمرار، وما يحدث في غزة والضفة والداخل المحتل يشير بوضوح إلى أن استمرار التوجه الحالي للحكومة الصهيونية سيفجر الأوضاع، ولكن يبدو أن رؤية هذه الحكومة تعول كثيرًا على التطبيع مع الدول العربية، وهو الأمر الذي لو تم حتى مع كل الدول العربية فإنه لن يحل مشكلة السبعة ملايين فلسطيني أصحاب الحق على أرض فلسطين، بل ربما تصبح العلاقات الطبيعية مع الدول العربية في ظل هكذا معادلة عاملًا ضاغطًا على دولة الاحتلال من أجل الوصول إلى تسوية.
إذن تبقى مشكلة اليمين الصهيوني قائمة بعدم وجود رؤية قابلة للتحقيق سياسيًّا، وهذا ما من شأنه أن يقصر عمر الحكومة الحالية وتتهيأ الظروف بضغط الأمر الواقع وجبروت الأحداث للعودة مرة أخرى لمسار التسوية، ولكن هذه المرة ليس على الطريقة التي كانت سائدة منذ عام 1990م بل ربما يكون أوسع من خلال التفكير باتحادات كنفدرالية في كامل المنطقة تشمل الأردن ومصر ولبنان وربما سوريا كوصفة للتغلب على الأبعاد الأيديولوجية للصراع وتحفظ التوازن العرقي والطائفي في المنطقة.
هذه الأفكار لا تمثل الكاتب ولكنها محاولة للتفكير بمنطق الآخر.