لا شك أن وضع المنطقة يقتضي تحركاً ونشاطاً دبلوماسيًا مكوكياً خاصة بعد الاعتداءات الصهيونية الأخيرة على المسجد الأقصى وإغلاق بواباته وتسجيل سبق تاريخي في أن المصلين لم يتمكنوا من صلاة الجمعة لأول مرة في المسجد الأقصى والنوايا التي لم تزل مُبيتة في هذا الشأن. كما تأتي زيارة الوفد الأمريكي برئاسة صهر الرئيس الأميركي اليهودي الصهيوني جاريد كوشنير وهي التاسعة عشر في مكوكيات الموفد الجديد وما طالب به من إملاءات جديدة بمطالبته عباس بنسيان موضوع الاستيطان والقفز عما جرى في القدس لحساسيتها وتجاوز الإرث السابق من المفاوضات والوقائع الاستيطانية التي نجمت عنها والاستعداد للبدء من أول السطر من جديد وبشكل ثنائي، وأن ما يتمخض عن هذه المفاوضات هو الذي سيقرر حدود الحل المطلوب!!
ولم تجرِ الإشارة في هذا السياق إلى أي أجندة زمنية أو إلى أي مرجعيات تمت هندستها مسبقاً أو صدور قرارات بشأنها كقرارات "الشرعية الدولية" بشأن قضايا الصراع العربي والفلسطيني الصهيوني أو اتفاق أوسلو برمته أو مشروع "حل الدولتين" الذي أضحى بفعل الاستيطان ووحداته التي تنتشر كالفطر خلفنا!؟
ولكن موضوع ما يُسمى "اصطلاحاً" بالمصالحة فإنه يبدو الملف رقم واحد على جدول الأعمال لأسباب موضوعية عديدة، يأتي في مقدمتها التفاهمات التي أُبرمت بين " حركة حماس " و" حركة فتح دحلان " بشأن إعادة توحيد الصف الفلسطيني باسناد مصري واضح والبدء – كما ترى حماس – بمد يد للجميع بما في ذلك تيار فتح برئاسة محمود عباس.
هذه التفاهمات التي ستشمل علاج عديد القضايا كالمعبر والتبادل التجاري وحرية عبور الأفراد والمصالحة المجتمعية والبدء بإنشاء الكثير من المشاريع كَحُلُم الميناء بما ينهي الحصار ويؤسس لمستقبل اقتصادي مزدهر يقضي على البطالة ويسمح بتبادل تجاري مفتوح مع مصر.
عباس يعلم أن هذا – إن حَسُنَت النوايا – لبدئه وتعزيزه سيكون على حساب عباس ودورهُ " المستقبلي " خاصة وأنه يقترب من لحظات أرذل العمر التي تتبدى في قراراته التي لا يأخذها غير من استبد به خريف العمر ومن أفلس مشروعه السياسي الذي " هندسه " في أوسلو ووقع عليه في حديقة الزهور في البيت الأبيض الأميركي عام 1993.
زيارة أنقرة جاءت لمعرفة عباس أن "صفقة القرن الترامبية" مرتبطة تماماً بالحل الإقليمي العربي الذي تنادي به الأطراف العربية الإقليمية الفاعلة وهي مصر والسعودية والإمارات والأردن وبغطاء وضوء أخضر أميركي/ صهيوني.
وبات معلوماً أن الملف الفلسطيني – وفق هذا المُخَطط – سيكون مؤجلاً وبكل رموزه السياسية على ضعفها مثل عباس وغيره.
هذا المشروع إن نجح وأصبح واقعاً سيعني نهاية عباس السياسية رسمياً، وليس فقط واقعياً كما هو الحال الآن!
زيارة عباس في واقع الأمر لن تخرج عن كونها جولة بروتوكولية للتذكير لا أكثر ولا أقل والتي تشمل الأردن، مصر وفرنسا وأخرى وتستمر لِأسبوعين بما في ذلك مركزها وهي تركيا ورئيسها الطيب أردوغان الذي نجح وعلى كل الصُعد في أن يضع تركيا بين الدول العشرين الأكثر تقدماً على المستوى الاقتصادي والازدهار والأهم من ذلك لتصبح من أبرز الدول الاقليمية التي تلعب دوراً محورياً في المنطقة شرق البحر المتوسط في سوريا والعراق، وجنوباً نحو أزمة الخليج في إسناد قطر ولعب دور حاسم هناك ليس فقط في عامل كسر الحصار وإنما عسكرياً أيضاً.
عباس يعلم أن تركيا أصبحت حجر الرحى فاقتربت حد التحالف – رغم كل الخلافات في ملفات عدة – مع إيران ومع روسيا ومع الصين والهند وحتى التقاطع مع عديد الدول الأوروبية في ملفات الطاقة وقطر وحقوق الإنسان.
وفوق وقبل كل ما تقدم، رئيس سلطة فتح يعلم متانة العلاقة بين تركيا وحماس وعديد الاتفاقات والتفاهمات بينهما في السياسة وتنسيق المواقف وهي ذات بعد مبدئي على أي حال.
ولا أعتقد أن هناك عاقلا يمكن أن يُنكر ضيق عباس الشديد من إرسال أردوغان سفن المساعدات الغذائية للعائلات المُعْسِرَة لغزة للعام العاشر على التوالي ومشاريعه الاقتصادية والطبية والتربوية والتعليمية وإعادة الإعمار والبنى التحتية الضخمة وضغوطه على حكومة دولة العدو أمام عدوانها ومخططاتها العنصرية الاستيطانية وإجراءاتها القمعية.
فهل عباس جاد في الوصول إلى مصالحة فعْلية مع الكل الفلسطيني ومع الشعب وحقوقه وثوابته ومع مقاومته ورأس حربتها حركتا حماس والجهاد الإسلامي بعد الطلاق البائن مع كل ذلك وبإعلان تقديس التخابر مع الاحتلال؟!
وهل سيغادر عباس خنادق دوره الوظيفي المنهجي والمرسوم فيرفع سَوْط قَتْلِهِ المُنَظّم لِعشرات آلاف الفلسطينيين ومن بينهم الأطفال الخدّج وذوو الأمراض المستعصية!
كثيرٌ هو المطلوب، وقد أوْقَفَ وقطع مُرتبات الآلاف من الموظفين والجرحى والأسرى وعائلات الشهداء، ويبدأ ملاحقة خيرة العلماء والمختصين والجراحين والتربويين ويفرض التقاعد الإجباري على الآلاف ويهدد بتجفيف الحياة في قطاع عزيز مُجاهد صامد جفف أمل استمرار وجود دولة النازيين الجدد حتى أمد بعيد!! وثقتي أكيدة بأن أغلبية الشعب وقواه الحيّة لا تُصدق مثقال ذرّة مما يشيعه عباس فيما يُسمى "مبادرة الرئيس" أي أنه جاهز لكل شيء إذا قامت حماس بحل اللجنة الإدارية وتمكين " حكومة " الحمد الله من أخذ دورها في غزة والتجهيز للانتخابات؟!
لقد قدمت حماس كل ذلك وأكثر منه بكثير ومنذ سنوات حين أعطت حماس لعباس تشكيل الحكومة ورئاستها – وهي حق ديمقراطي لحماس – ودعت حكومة "النفاق" لزيارة غزة لمرات عدة وقالت لها احملي الجمل بما حمل وحين حضر وزراؤها لم يجتمعوا حتى مع طواقم وزاراتهم أو أنهم حتى لم يزوروا مقراتها، أما الانتخابات: ألم تجرِ في 25 كانون الثاني 2006 وبكل شفافية ونزاهة الدنيا وانقلب على نتائجها عباس في اليوم التالي؟؟!!