ظلمات من القهر والعذاب بعضها فوق بعض أطبقت على صدر والدة الشهيد نصار طقاطقة بسبب ما عاشه فلذة كبدها في أيام معدودة من الاعتقال والأسر والتعذيب والعزلة التي لم تنتهِ باستشهاده فحسب، بل باحتجاز جثمانه، ليفتح الاحتلال الإسرائيلي جرحًا لم يندمل في جسد كل فرد من أسرته.
ثلاث سنوات من المعاناة والانتظار على أمل أن يأتي اليوم الموعود باسترداد جثمانه وإلقاء نظرة الوداع عليه.
ارتقى الشهيد نصار، من بلدة فجار جنوب بيت لحم، في 16 يوليو/ تموز 2019 بعد شهر واحد على اعتقاله، ومنذ ذلك التاريخ يواصل الاحتلال احتجاز جثمانه.
يسرى طقاطقة (60 عامًا) والدة نصار تشعر أن حياتها توقفت منذ استشهاد نجلها واحتجاز جثمانه، فقد كان نبأ الخبر الأخير أصعب من الأول عليها، فقد أصابها بحالة من الصدمة والذهول.
تقول لصحيفة "فلسطين": "كل أم شهيد تتمنى أن تودع ابنها وتزفه وتدفنه على الطريقة الإسلامية، وينال حقه كبقية أموات المسلمين، وتتمكن من زيارة قبره كلما رف قلبها شوقًا إليه".
"الحزن يسكنني"
الحزن يتملكها منذ ذلك اليوم، ولا تزال تنتظر بفارغ الصبر أن تلقي عليه نظرة الوداع، "لا يمكن لي أن أحدثك بوضعي النفسي فأنا حزينة جدًا، كيف تغمض لي عين ويرتاح بالي وابني منذ ثلاثة أعوام محتجز جثمانه في ثلاجاتهم؟ لا أعرف موعدًا لاسترداد جثمانه، ولا مصيره".
وتتابع طقاطقة حديثها: "منذ استشهاده لم أصدق رواية الاحتلال، وعشت أيامًا على أمل أنه حي، خاصة أنه لم يمر على اعتقاله سوى شهر واحد".
وبالعودة إلى الحدث الذي قاد إلى استشهاد نصار، تقول يسرى إن قوات الاحتلال اقتحمت منزل العائلة في 19 يونيو بهمجية، واعتقلت نصار، ولم يتم الإفصاح عن مكان اعتقاله ومنعت المحامي من زيارته، كما لم تحدد موعدًا لمحاكمته.
خلال تلك الفترة عاش أيامًا من العذاب داخل زنازين العزل الانفرادي حيث التعذيب النفسي والجسدي وظروف احتجاز قاسية، تسببت بإصابته بالتهاب رئوي حاد، لتنتهج معه سياسة الإهمال الطبي.
وبصوت متعب وباكٍ تكمل طقاطقة: "أبكي عليه الليل مع النهار، ضاع شبابه برمشة عين دون أن أفرح فيه، أرى صورته على جدران البيت، أتذكر سيرته في كل أكله أعدها، لا يغيب عن بالي للحظة، وما يزيد وجعي أضعافًا أنه لم يدفن ولم يرتَح في قبر يحتضن جثمانه بعد أن أودعه".
تلك الأم المكلومة تزيد عضلة قلبها سوءًا كلما زادت مخاوفها من أن تفارق الحياة قبل أن تودع ابنها، خاصة أنها مصابة بعدة أمراض مزمنة كالسكري وارتفاع ضغط الدم، وضعف في عضلة القلب، ناهيك بآلام في المفاصل، وتليف في الرئتين، لتعيش أيامها على جهاز التبخيرة والأدوية والأكسجين.
عم الشهيد محمد طقاطقة لم يستطِع استيعاب سياسة الاحتلال في احتجاز جثامين الشهداء لسنوات طويلة وتعذيب ذويهم، ويتساءل: "كيف لنا نحن عائلة الشهيد أن نمارس حياتنا وشخص عزيز عليك لم تتمكن من دفنه؟ أي تأثير على كيانهم وهو جسد بلا روح؟ بات اليوم جسده متجمدًا من الثلج وملامحه تتغير بعد هذه المدة الطويلة من الاحتجاز".
ويتابع حديثه: "نحن حتى هذا اليوم لم نعرف كيف استُشهد، فعند اعتقاله لم يكن نصار يعاني أي مرض أو وجع، ولم يتناول أي حبة دواء".
عقاب جماعي
بينما يقول مجدي، شقيق الشهيد: إن احتجاز جثمان نصار حتى هذا اليوم عقاب جماعي يمارسه الاحتلال بحق عائلته لتعيش أيامًا لا تنتهي من الحزن عليه.
ويرى أن عائلته مرت بمراحل من الوجع والصدمات المتتالية بدءًا باعتقال نصار ثم تلقي نبأ استشهاده، لتحل عليهم صاعقة احتجاز جثمانه، "وبالعادة يبدأ أهل الشهيد بالعودة إلى الحياة الطبيعية بعد دفنه وانتهاء أيام العزاء، ولكن نحن عائلات الشهداء المحتجزة جثامينهم لا يشفى وجعنا ولا يلتئم جرحنا إلا بعد أن يحتضن قبرٌ جثمان ابننا الشهيد"، وفق حديثه.
هذا الجرح العائلي المفتوح لا يُمكّن مجدي وأشقاءه من ممارسة حياتهم الطبيعية، فيعيشون حالة من الانتظار والترقب لاسترداد الجثمان وإلقاء نظرة الوداع ودفنه بما يليق به.