بزعم معاقبة السلطة الفلسطينية، وردًّا على ما سمَّته سلطات الاحتلال قرار الفلسطينيين خوض حرب سياسية وقضائيّة ضد (تل أبيب)، مارست قرصنة لملايين الشواقل من أموال الضرائب المعروفة بـ"المقاصة"، التي تُدفع على شكل رواتب شهرية لمؤازرة عائلات الفئات الفلسطينية الثلاث، وهي: الأسرى، والشهداء، والجرحى، وهذا لا يعجب سلطات الاحتلال، وقبل ذلك مارست مرارًا السطو على هذه الأموال، إذ تدعي أنها ستدفعها إلى المستهدفين من عمليات الفلسطينيين.
ولقد فصّلت في مقالي السابق بعنوان: "الحقوق لا تستجدى"، حقيقة هذا القرار الإسرائيلي العنصري بالأرقام وذكرت أسبابه وتداعياته، وضرورة الرد السريع عليه من طرف السلطة المعنية بالأمر، وهي غير عاجزة عن الرد، لما تمتلك من أوراق مهمة، ما يمكنها من رد الصاع صاعين، وإلزام الاحتلال حده، دون الحاجة للشكوى، والبكاء، والترجي، والاستجداء، وقد جُربت هذه الأساليب طويلًا ولم تحصل السلطة على شيء.
مع دخول العقوبات الإسرائيلية الاقتصادية التي فُرضت على شعبنا حيز التنفيذ، نسمع جرشًا ولا نرى طحينًا، فهل ينفع الشجب وحده مقابل هذا الصلف الصهيوني؟ فالاحتلال لا يُقدم على هكذا إجراءات، إلا ليقينه من طبيعة رد السلطة، فسبق لها رفض استلام أموال المقاصة بسبب الخصومات التي فرضها الاحتلال، ولكنها سرعان ما خضعت لابتزازه وسلمت للأمر الواقع، وكم مرة هدد عباس بحل سلطته، وإلغاء اتفاق أوسلو من طرف واحد؟ وكم مرة هدد بوقف العمل بالتنسيق الأمني مع الاحتلال، كان آخرها في أواخر عام 2020 ردًا على إعلان ترامب "صفقة القرن"، لكن السلطة عادت إلى العمل به، وعادت العلاقات بين الجانبَين أفضل مما كانت عليه، دون أن تتراجع سلطات الاحتلال عن قرارها.
لقد تعود الاحتلال على ردات فعل السلطة المترنحة، التي لا تصمد طويلًا، وسرعان ما تذهب تهديداتها أدراج الرياح، بسبب الاتفاقيات التي كبلتها، ورهنت الوضع الفلسطيني برمته بيد الاحتلال، الذي تمرد عليها، وتنمر على السلطة والشعب الفلسطيني، فلم تقف عقوبات الاحتلال عند حد السطو على أموال "المقاصة"، بل صاحبها حزمة من العقوبات وهي: منع الفلسطينيين من البناء في منطقة (ج)، التي تمثل 62% من مساحة الضفة، وملاحقة المنظمات الحقوقية الفلسطينية، وأيضا مصادرة بطاقات بعض الشخصيات (VIP) في السلطة.
ما أود أن أشير إليه، يبدو أن السلطة رضخت تمامًا للعقوبات الإسرائيلية، وإلا بمَ يفسر صمتها؟ فالسلطة لم تعلن أي إجراء، حتى من باب التهديد كعادتها، ردًا على هذه العقوبات الإسرائيلية العنصرية، التي بإمكانها استخدام أي من أوراق الضغط التي بحوزتها، لثني الاحتلال عن عقوباته، أو لكون عقوبات الاحتلال اقتصرت على فئة معينة دون الآخرين، فهي لم تطل رئيس السلطة محمود عباس أو حسين الشيخ أو ماجد فرج، أي أن العقوبات الإسرائيلية كانت مضبوطة ومدروسة إلى حد ما، بعدم المساس برأس الهرم في السلطة للحفاظ على المصالح المشتركة ولا سيما في الجانب الأمني.
لقد فشلت السلطة في اختبار الذات، بتقديم المصالح الشخصية على المصالح العامة، هذا الموقف يذكرنا عندما قالوا لجحا: لقد أشعلت النار يا جحا، رد: لا يهمني ما دامت ليست في قريتي.. ليست في حارتي.. ليست في بيتي، والظاهر للعيان أن هذه العقوبات الإسرائيلية بما أنها لم تطل هرم القيادة فيبدو أن السلطة ستبتلعها، والواضح أنها لا تجرؤ على اتخاذ أي قرار من شأنه أن يغضب شريكها الأمني، ولا مستعدة أن تُظهر أي بوادر أو مؤشرات قد تغير علاقتها مع الاحتلال، بدليل عدم تنفيذ قرارات اجتماع الأمناء العامين للفصائل في عام 2020، التي طالبت بوقف التعاون الأمني مع الاحتلال، وإطلاق حوار وطني شامل، وإنهاء الانقسام، وإصلاح منظمة التحرير، كما بقيت قرارات المجلسين المركزي والوطني حبرًا على ورق دون إحداث تغيير للأوضاع الداخلية بإجراء انتخابات تشريعية ورئاسية وتجديد الشرعيات.
أقول مرة أخرى: الحقوق تنتزع ولا تستجدى، فعقوبات الاحتلال على خطورتها لن تكون نهاية المطاف، لأن تهديدات “نتنياهو” و”بن غفير” لا تبشر بخير، وربما في قادم الأيام والأشهر سيكون الفلسطينيون أمام جرائم وإجراءات وعقوبات وسياسات أكثر خطورة ستقدم عليها الحكومة الاحتلال وستطال الجميع، مقابل هذا السكوت والإذعان والخضوع للأمر الواقع.