في المقال الماضي تحدَّثنا عن المسارات الفلسطينية المتوقعة في سنة 2023 للوضع الداخلي، والقدس، والمقاومة، والكيان الإسرائيلي. وفي هذا المقال نغطِّي ما يتعلق بالجوانب العربية والإسلامية والدولية.
العالم العربي والإسلامي:
ما زالت المنطقة العربية تعاني حالة من عدم الاستقرار والضعف، وإذا كانت قوى التغيير والإصلاح عانت الإحباطات والانتكاسات كان آخرها في تونس، وما زالت تيارات التغيير تتمتع بحضور شعبي قوي، كما أن الأنظمة العربية عادت إلى إنتاج أزماتها، وإنتاج البيئات والظروف التي تدفع الجماهير إلى التغيير والثورة، وفي هذه الأجواء القلقة والمربكة إستراتيجياً، ما زالت بعض الأنظمة ترى في العلاقة مع الكيان الإسرائيلي عنصراً دائماً لاستقرارها، سواء في مواجهة شعوبها، أو في استرضاء الأمريكان، أو فيما ترى أنه يخدم أمنها في مواجهة إيران.
غير أن تراجع الضغوط الأمريكية المباشرة، وتراجع المكانة الدولية لأمريكا، وتشكيل حكومة إسرائيلية هي الأكثر تطرفاً في تاريخ الكيان الصهيوني، مع عدم إحداث العلاقة مع الكيان فروقاً ذات قيمة نوعية بالنسبة للأنظمة، تجعل الاندفاعة التطبيعية مترددة ومتباينة بين نظام عربي وآخر.
وعلى ما يبدو، فستتابع الإمارات عملية تطبيع نشطة مع الكيان، سياسياً واقتصادياً وأمنياً وسياحياً، وظهرت علامات ذلك بالتطور المتسارع في العلاقات التجارية، التي زادت عن ملياري دولار سنة 2022، وبزيارة نتنياهو المرتقبة للإمارات.
وتسير البحرين على خطى الإمارات، وإن بدرجة أقل، وفي المقابل توجد معارضة قوية للتطبيع أكثر تنظيماً ووضوحاً في البحرين منها في الإمارات.
أما المغرب فيسير بخطوات ثابتة محسوبة، ولكن غير متسارعة، باتجاه التطبيع، إذ يُدرك النظام السياسي المعارضة الواسعة للتطبيع، والتي تجلَّت في الفعاليات الشعبية والحزبية، وفي مونديال قطر. من جهة أخرى، فإن التطبيع مع السودان سيشهد المزيد من التعثر في ضوء ارتباك وعدم استقرار النظام السياسي، وبدء استرجاع التيار الإسلامي والقوى المعارضة لزمام المبادرة.
ولا يظهر وجود تغيير في السلوكين الأردني والمصري المعتادين تجاه عملية التطبيع والعلاقات مع الكيان، غير أنهما سيجدان المزيد من الحرج في التعامل مع الحكومة الإسرائيلية المتطرفة. وسيكون الموقف الأردني أكثر حساسية، خصوصاً في ضوء سعي قوى نافذة في الحكومة الإسرائيلية لإلغاء أو تهميش الوصاية الهاشمية على المقدسات، وإنهاء مسار التسوية، وطرح فكرة الوطن البديل، وهي تطورات مصحوبة بتصاعد الاحتجاجات المعيشية والسياسية في الأردن، ما قد يدفع الحكومة الأردنية إلى سلوك أكثر تشدداً، (ولكن بسقف محسوب) مع الطرف الإسرائيلي.
أما السعودية التي سيسعى نتنياهو بقوة لاستدراجها نحو التطبيع العلني، فهى ليست مستعجلة للاتجاه نحو العلن، ما دامت لا تواجه ضغوطاً حقيقية، ولا ظروفاً مفصلية تدفعها إلى ذلك.
اللافت للنظر أن الجزائر تصدّرت مشهد مقاومة التطبيع ورعاية المصالحة الفلسطينية سنة 2022، ويظهر أنها ستتابع السياسة نفسها في 2023. وستتابع الكويت موقفها الرسمي والشعبي الرافض بقوة للتطبيع، كما تقدّمت عُمان خطوة مهمة في إقرار وتوسيع قانون مقاطعة (إسرائيل)، وهو ما يعني متابعة سياستها الهادئة في الابتعاد عن التطبيع ومساراته.
من المستبعد أن تحدث مواجهة عسكرية واسعة بين الكيان الصهيوني وبين حزب الله وقوى المقاومة في لبنان، خصوصاً بعد التوافقات التي تمت بشأن استغلال الغاز قبالة السواحل اللبنانية، كما سيسعى الكيان للاستمرار في الهيمنة على المجال الجوي السوري، وتبني سياسة “جز العشب”، و”تقليم الأظافر” لضمان خطوطه الشمالية.
من جهة أخرى، فإن قطر تلعب دوراً في “ديبلوماسية الإنابة” عبر محافظتها على علاقة مميزة بالقوى الفلسطينية، واستضافتها لقادة حماس، ودعمها لقطاع غزة، ودعم إعلامها للشأن الفلسطيني، مع القيام بدرجة محسوبة من التطبيع، ولو بأشكال بسيطة أو محدودة، تمكّنها من لعب دور الوسيط بشكل أو بآخر، وضمن هذه العملية المحسوبة (وللتوافق أيضاً مع شروط الفيفا) فتحت المجال لقدوم نحو 15 ألف إسرائيلي لحضور المونديال، وفي الوقت نفسه سمحت بتنظيم العديد من الفعاليات الداعمة لفلسطين ورفع الأعلام الفلسطينية.
أما البيئة الشعبية العربية، فما زالت وستواصل التفافها حول القضية الفلسطينية ورفضها للتطبيع، وسيظل التطبيع قشرة سطحية رسمية، كما تُظهر استطلاعات الرأي والفعاليات الشعبية، وكما ظهر جلياً في مونديال قطر.
وفي إطار العالم الإسلامي يبرز الدور التركي والإيراني، ففي الجانب التركي نلاحظ ميلاً لتحسين العلاقة مع الكيان الإسرائيلي، ومؤخراً تبادلوا السفراء، مع تطوير التبادل التجاري الذي تجاوز 8.5 مليار دولار سنة 2022.
ومن غير المتوقّع أن تغيّر إيران من مواقفها وسياستها تجاه القضية الفلسطينية، سواء في رفض الاعتراف بالكيان الإسرائيلي، أو في استمرار دعمها المالي والعسكري للمقاومة الفلسطينية، غير أنه ليس من الوارد خوضها مواجهات مسلحة مع الكيان لا هي ولا حلفاؤها في لبنان وسوريا في سنة 2023، ما لم يبادر الكيان نفسه بعدوان مباشر يدفعها للرد.
وسيتابع الكيان الإسرائيلي مسار التطبيع مع عدد من بلدان العالم الإسلامي؛ إذ ستأخذ العلاقات مع أذربيجان شكلاً رسمياً مع تبادل السفراء، كما ستستمر محاولة إحداث اختراق في العلاقات مع إندونيسيا.
البيئة الدولية:
ألقت الحرب الروسية الأوكرانية بظلالها على البيئة الدولية، إذ ستتابع انعكاساتها في سنة 2023، مع وجود حرج إسرائيلي في اتخاذ موقف واضح من طرفَي النزاع، نظراً لعلاقتها المهمة والحساسة مع روسيا، ولعلاقتها القوية مع أوكرانيا، ونظراً لعدم رغبتها في إغضاب أمريكا ودول الاتحاد الأوروبي، في الوقت نفسه استفادت (إسرائيل) من تزايد تدفق المهاجرين اليهود من روسيا وأوكرانيا، كما استفادت من تسويق الغاز إلى أوروبا لتعويض النقص الناتج عن انخفاض أو توقف إمدادات الغاز الروسي، وهو ما ستتابعه في 2023.
وفي الإطار الدولي، سيستمر تراجع المكانة الدولية للولايات المتحدة، في عالم يتجه نحو تعدّد القطبية، كما سيستمر تراجع قدرتها (ورغبتها) على التدخل العسكر المباشر خارج حدودها، وسيستمر أيضاً الاتجاه الأمريكي العام في التركيز على طرفَي المحيط الهادي، وتحديداً مواجهة الصعود الصيني مع التراجع النسبي لمكانة الشرق الأوسط، غير أن ذلك لا يعني أن أمريكا ستخسر مكانتها كقوة عالمية أولى في المدى القريب والمتوسط، كما ستظل اللاعب الدولي الأكثر فعالية في المنطقة، وسيظل الكيان الصهيوني حجر الزاوية في سياستها الشرق أوسطية، والمقصود تراجع قدرة الولايات المتحدة على التأثير، واستخدام القوة الخشنة والناعمة مقارنة بالسنوات الماضية، حتى وإن ظلّت في صدارة القوى الدولية الفاعلة في المنطقة.
وستسعى الولايات المتحدة للمحافظة على مسار التسوية السلمية والدفع باتجاه التطبيع مع الكيان الإسرائيلي، وستحاول تهدئة اندفاعيَّة الحكومة الإسرائيلية المتطرفة لتهويد الأقصى والقدس والضفة الغربية والعدوان على الشعب الفلسطيني، للحفاظ على ما بقي من “أوهام” تجاه التسوية و"حلّ الدولتين"، وللمساعدة في عدم الانكشاف الوقح للوجه البشع للاحتلال في البيئة الدولية.
أما دول أوروبا الغارقة في مشكلاتها، فليس من المتوقع أن يتغير سلوكها العام القريب من السلوك الأمريكي.
روسيا التي دخلت في حرب استنزاف مع أوكرانيا ستكون أقل قدرة على التدخل في المنطقة، غير أنها قد توظف استياءها من موقف الحكومة الإسرائيلية تجاه الحرب، ومن الموقف الغربي عامة، بمزيد من الانفتاح السياسي على الجانب الفلسطيني بما في ذلك حماس، دون أن يعني ذلك دعماً مالياً أو عسكرياً.
أما الصين فعلى الرغم من صعودها الاقتصادي الكبير، وتضاعف ميزانياتها العسكرية، وأنها أصبحت الشريك التجاري الأول للمنطقة العربية، إلا أنها ليست في وارد الدخول في أي احتكاكات أو نزاعات مع الولايات المتحدة (في غير موضوع تايوان)، وستتابع حرصها على علاقات قوية مع الكيان الإسرائيلي، طالما أن البيئة العربية ضعيفة وغير ضاغطة عليها، وستتابع المواقف الدبلوماسية ذاتها تجاه قضية فلسطين في دعم مسار التسوية و"حلّ الدولتين"، وستظل بعيدة عن ممارسة أي دور سياسي نشط في الشأن الفلسطيني.
وفي أمريكا الجنوبية أخذ المسار الداعم لفلسطين يستعيد عافيته بفوزه في انتخابات تشيلي والبرازيل، ما يفتح أفقاً أفضل للقضية.
أما على صعيد الأمم المتحدة والمؤسسات الدولية، فلا تغيرات مهمة في الأفق، وسيتتابع صدور القرارات المؤيدة لفلسطين بأغلبية كبيرة على صعيد الجمعية العامة، والمؤسسات التابعة للأمم المتحدة، وسيظل “الفيتو” في مجلس الأمن عقبة أمريكية غربية كأداء في وجه أي حقوق فلسطينية يُمكن تحصيلها عملياً، وفي وجه إلزام (إسرائيل) بتنفيذ أي من قرارات للأمم المتحدة، غير أن إحالة الوضع القانوني لفلسطين المحتلة سنة 1967 إلى محكمة العدل الدولية، قد يفتح فرصاً أفضل لمزيد من الضغوط على الجانب الإسرائيلي.
أما البيئة الشعبية الدولية فستتابع تحركها ولو ببطء باتجاه مزيد من دعم الحقوق الفلسطينية، ومزيد من المواقف السلبية تجاه الكيان الإسرائيلي، وهي مرشحة للتحول إلى قوى ضاغطة ومؤثرة على دولها في حالة تصاعد موجات الانتفاضة، والمقاومة في فلسطين المحتلة.