تستمر ﺍﻟﺴلطﺔ الفلسطينية، ممثلة بأجهزتها ﺍﻷﻤﻨﻴﺔ، في ممارسة الاعتقالات السياسية في الضفة الغربية منذ فجر الانقسام إلى هذا اليوم، في انتهاك خطير لحقوق ﺍﻹﻨﺴﺎﻥ الفلسطيني، خاصة عندما لا تُوجه له تهمة رسمية واضحة وقاطعة، تدل على ارتكابه أي مخالفة تمس بالقانون والنظام العام، الذي تديره السلطة بموجب القانون الأساسي الفلسطيني وفقًا لاتفاقية أوسلو، أو أن تستند السلطة إلى أي تشريع دولي يجيز اعتقال وتوقيف المواطنين بناء على آرائهم، وانتماءاتهم السياسية، أو الحزبية.
في خضم هذا الموضوع الحساس، يجب علينا الوقوف على أهم المرتكزات المخالفة لنهج الاعتقالات السياسية، التي تصر السلطة الفلسطينية على اتباعه، على الرغم من التحذيرات من مخاطرها، وتداعياتها الآنية والمستقبلية على القضية الفلسطينية، وقد تشهد أسوأ الظروف التي ألمَّت بالشعب الفلسطيني، ويعدها كثيرون أخطر من النكبة، ألا وهو الانقسام الفلسطيني الأسود، واستمرار الاحتلال، والاستيطان، والاعتداءات المستمرة على المسجد الأقصى المبارك لتهويد المتطرفين الصهاينة له.
فقد تتناقض سياسة الاعتقالات التي تنتهجها السلطة مع الإعلان العالمي (1948 المادة 19) لحقوق الإنسان "بأن ﻟﻜل ﺇﻨﺴﺎﻥ الحق ﻓﻲ اﻋﺘﻨﺎﻕ آرائه ﺩﻭﻥ مضايقة، ﻭﺍﻟﺤﻕ ﻓـﻲ حرية ﺍﻟﺘﻌﺒﻴﺭ"، والشيء نفسه في اتفاقية جنيف الرابعة (1949)، وكذلك اتفاق روما (1950).
وبعرضنا ﺍﻟﺴﺎﺒﻕ ﻟﻨﺼﻭﺹ ﺍﻟﻤﻭﺍﺜﻴﻕ ﺍﻟﺩﻭﻟﻴﺔ ﺫﺍﺕ ﺍﻟﻌﻼﻗﺔ، يتضح ﻟﻨﺎ أنها حرَّمت حجز حريات ﺍﻷﺸﺨﺎﺹ دون ﺃﻱ سند قانوني، ﻭﺩﻭﻥ احترام الإجراءات ﺍﻟﻘﺎﻨﻭﻨﻴﺔ ﺍﻟﺴﻠﻴﻤﺔ، كما أنها حرَّمت مصادرة حريات ﺍﻷﺸﺨﺎﺹ بسبب ﻤﻭﺍﻗﻔﻬﻡ، ﺃﻭ انتماءاتهم ﺍﻟﺴﻴﺎﺴﻴﺔ ﺃﻭ الحزبية، فلنذكر السلطة ما خطته بيدها بناء على مبادئ وثيقة إعلان الاستقلال التي عدّت ﺍلاﻋﺘﻘﺎل ﺍﻟﺴﻴﺎﺴﻲ انتهاكًا لمبدأ التعددية ﺍﻟﺴﻴﺎﺴﻴﺔ، وحرية تشكيل ﺍﻷﺤـﺯﺍﺏ، ﺍﻟـﺫﻱ يعد ﻤﻥ ﺃﻫﻡ ﻤﺒﺎﺩﺉ الديمقراطية، ونصت أيضًا ﻋﻠﻰ "ﺃﻥ ﺩﻭﻟﺔ فلسطين ﻫﻲ للفلسطينيين أينما كانوا، ﻓﻴﻬﺎ يطورون ﻫﻭﻴﺘﻬﻡ ﺍﻟﻭﻁﻨﻴﺔ ﻭﺍﻟﺜﻘﺎﻓﻴﺔ، ﻭﻴﺘﻤﺘﻌﻭﻥ ﺒﺎﻟﻤﺴﺎﻭﺍﺓ ﺍﻟﻜﺎﻤﻠﺔ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﻘﻭﻕ، وتصان ﻓﻴﻬﺎ ﻤﻌﺘﻘﺩﺍﺘﻬﻡ الدينية والسياسية وكرامتهم الإنسانية، ﻓـﻲ ظل نظام ديمقراطي برلماني يقوم ﻋﻠﻰ ﺃﺴﺎﺱ حرية ﺍﻟﺭﺃﻱ، وحرية تكوين الأحزاب، والعدالة الديمقراطية ﺍﻟﻨﻴﺎﺒﻴﺔ وحق الانتخاب".
نُذكرها أن ﺍلاﻋﺘﻘﺎل ﺍﻟﺴﻴﺎﺴﻲ يتناقض ﻤﻊ مشروع القانون ﺍﻷﺴﺎﺴﻲ الفلسطيني ﻟﻌﺎﻡ 1996، ﺍﻟـﺫﻱ ﺃﻗﺭﻩ ﺍﻟﻤﺠﻠﺱ التشريعي، إذ نصت ﺍﻟﻤﺎﺩﺓ 19 على أنه "ﻻ مساس بحرية ﺍﻟﺭﺃﻱ، ﻭﻟﻜل ﺇﻨﺴﺎﻥ ﺍﻟﺤﻕ ﻓﻲ ﺍﻟﺘﻌﺒﻴﺭ ﻋﻥ ﺭﺃﻴﻪ ونشره بالقول ﺃﻭ الكتابة، ﺃﻭ ﻏﻴﺭ ﺫﻟﻙ من وسائل التعبير ﺃﻭ ﺍﻟﻔﻥ".
لقد كتبت كثيرًا، وشأني شأن كثيرين من الكتّاب الذين أدلوا هم أيضًا بدلوهم في موضوع تجريم الاعتقالات السياسية ضد أي فلسطيني يعبر عن رأيه بناء على تصور وفكر معين لا يخرج عن إطار الإجماع الوطني، لكن اليوم وبعد اتفاق الجزائر الأخير بشأن إنهاء الانقسام، وإحلال المصالحة الفلسطينية، أصبح هذا الموضوع هو الشغل الشاغل لدى المواطنين والرأي العام إجمالًا، لمعرفة سبب استمرار السلطة في رام الله في الاعتقالات السياسية ضد كل من يخالف سياستها القائمة أولًا وأخيرًا على التعاون مع الاحتلال، مع ما يقوم به الأخير من جرائم ومجازر بدم بارد بحق الشعب الفلسطيني، ناهيك بالاعتقالات والمداهمات والاحتجاجات اليومية للمدن والقرى في الضفة. أختم بهذا السؤال الوجيه: ألم تتعظ السلطة من كل ما يحاك بالقضية الفلسطينية من أضرار بأن تتوقف عن الاعتقالات السياسية وتتجنب التنسيق الأمني حفاظًا على ماء وجهها؟