فلسطين أون لاين

أفشلوا مخطط اجتثاث المقاومة

تقرير "مرج الزهور".. عندما انتزع المبعدون عودتهم وسجلوا "الانتصار الأول"

...
قيادات حركة حماس في صورة داخل مرج الزهور
غزة/ يحيى اليعقوبي:

بعد مسافة سير طويلة لقافلة تضم 21 حافلة تحمل 415 مبعدًا من قادة العمل الإسلامي، جلهم من حركة حماس، توقفت الحافلات على الحدود الفاصلة بين فلسطين ولبنان في جو من الثلج والبرد والمطر الشديد، فُكَّت القيود عن أيديهم والعُصب عن عيونهم، ليقف المبعدون أمام واقع اختلفت فيه الصورة، ووجدوا أنفسهم أمام مستقبل غامضٍ.

اقرأ أيضاً: النائب الرجوب: صمود مبعدي مرج الزهور جعلها محطة نضالية وتاريخية

نزل المبعدون من الحافلات وتوزعوا على سبع شاحنات، كل شاحنةٍ انتخبت قيادة لها، وتشكلت لجنة مركزية لقيادة المبعدين، ترأسها الشهيد الدكتور عبد العزيز الرنتيسي، الذي كان أيضًا ناطقًا باسمها باللغة العربية، والدكتور عزيز دويك ناطقًا باللغة الإنجليزية، وكان القرار بالبقاء على حدود فلسطين من جهة لبنان في منطقة جبلية باردة معزولة عن العالم، تُسمى "مرج الزهور" لا توجد فيها مقومات الحياة، لكن سرعان ما دبت فيها الحياة، وحضرت وفود العالم إليها.

قبل ثلاثين عامًا، وفي السابع عشر من ديسمبر/ كانون الأول عام 1992م، أُبعدت قيادات من حركتي حماس والجهاد الإسلامي إلى مرج الزهور، وبدأت حكاية "انتصار العودة الأول"، والصبر أمام أصناف كثيرة من المعاناة حتى تحقق الهدف.

اليوم الأول

تُبحر ذاكرة النائب فتحي قرعاوي أحد مبعدي مرج الزهور نحو الماضي، مسترجعًا تفاصيل اليوم الأول للإبعاد، يقول لصحيفة "فلسطين": "استقر قرار القيادة بالبقاء على الحدود من جهة لبنان في منطقة مرج الزهور، كانت الأجواء ماطرة، كنا نسير على ثلج يغطي الأرض بارتفاع 7 سم".

يستحضر بقايا صورة عالقة في ذاكرته، وخُلِّدت في ذاكرة الأجيال الفلسطينية: قابَلْنا الإبعاد بصبر واحتساب، وكنا ننشد (هو الحق يحشد أجناده) في أثناء المسير عدة كيلومترات حتى وصلنا إلى مرج الزهور، كانت المنطقة الخالية من البشر، فعمَّرها المبعدون بصوتهم الندي وحضورهم وصبرهم".

كان متابعة السير إلى مخيمات اللاجئين في لبنان هو ما يريده الاحتلال؛ ليحاول كتابة الفصل الأخير في عمر حركة حماس، التي كانت حديثة النشأة والتأسيس، وكان قرعاوي شاهدًا على "قرار حكيم"، قائلًا: "بعدما انتخبْنا لجنة لقيادة المخيم، تقرر البقاء على الحدود، وهذا أربك حسابات الاحتلال، وساعد الحكومة اللبنانية التي عدَّت قدوم 415 مبعدًا أمرًا خارجًا عن سيطرتها، وبدأ العالم يستيقظ على هول ما حدث".

في طبيعة مناخية لم يعتادوها، عاش المبعدون فصولاً من المعاناة، يشرح قرعاوي بعض تفاصيلها، قائلًا: "كان المخيم واقعًا في منطقة ساخنة، ومحاطًا بقواعد عسكرية للفدائيين ولحزب الله وقوات سوريا وجيش الاحتلال، كُنا نرى الاشتباكات بعيوننا".

لكن في إحدى المرات كان المخيم هدفًا لمدفعية الاحتلال، يستذكر: "الساعة الثانية والنصف فجرًا، استيقظْنا في أحد الأيام على صوت قنابل تتساقط على حدود المخيم، فابتعدنا باتجاه الشمال قليلاً، وكان الهدف تهجيرنا وبث الخوف بداخلنا، لكننا وبعد توقف القصف عدنا وأرسلنا رسالة للاحتلال أننا لن نبرح المكان".

مجموعة من الفدائيين التي تُسمى مجموعات "أحمد جبريل" هي أول من زار المخيم، وفق قرعاوي، وجلبوا طعامًا من بعض الخبز والخضراوات، لم ينسَ أول ليلة: "نمنا على الأرض، بعد إرهاق طويل من السير بالحافلة والأقدام واستيقظنا على حقيقة ما جرى، وأننا أمام مستقبل غامض".

اقرأ أيضاً: حماس تحيي ذكرى "مرج الزهور": المقاومة سبيل للتحرير والعودة

ثم بدأ المبعدون في إنشاء المخيم بعد جلب 21 خيمة جلبها الفدائيون وبدأ القرويون بمساعدتهم وبدأت تصل إليهم مساعدات غذائية، وبدؤوا في إيصال قضيتهم للعالم، لكن قدوم الصحفيين إلى هذه المنطقة "المقطوعة" كان صعبًا.

ذاكرة قرعاوي تسترجع صورة من تلك المعاناة: "كان بعض الصحفيين يصلون إلينا بين الحياة والموت، من شدة التعب، وعندما يضل الطريق، لكنهم كانوا يأتون".

أراد الاحتلال أن يُدخل العدد الكبير من المبعدين إلى لبنان، ومن ثم يتشتتون ويتبخر حلم المقاومة، لكن قرعاوي يلفت إلى أن قيادة المخيم شكلت لجنة هندسية، قامت برسم حدود للمخيم، هادفةً إلى ضبط وإدارة المخيم، وعرف كل مبعد واجباته، إذ يُغلق المخيم الساعة السابعة مساءً، فلا يخرج أو يدخل أحد إليه.

"جلبنا العالم إلينا.."

تحوَّل المخيم إلى ما يشبه "دولة صغيرة"، وقُسم إلى عدة لجان، ونظموا أنشطة رياضية وثقافية وأنشؤوا عيادة طبية، أدارها الطبيب عمر فروانة من غزة، وأجروا بعض العمليات، "أردنا أن نرسم صورة مشرقة للمبعدين منذ البداية، وتغلبنا على قضية السكن والطعام والمياه، وبعد مرحلة الخيام جلبنا خشبًا من الأردن، وأنشأنا سريرًا لكل مبعد ورويدًا رويدًا دبَّت الحياة بالمخيم"، يقول قرعاوي: أعطت قيادة المخيم صورة إيجابية عن قيادة الشعب الفلسطيني، عن طريق التعامل بأريحية وتوفير مقومات الحياة، فأصبح بالمخيم مخزنًا للمواد الغذائية التي تأتي تبرعات وتوزَّع بالتساوي، يتابع: "ربما لم يبقَ بقعة من المسلمين بالكرة الأرضية، إلا وجاء أحدٌ منها إلى مرج الزهور؛ ليساعد بقدر ما يستطيع".

واستطرد: "كنا نستقبل كل يوم وفودًا، وشكَّلنا لجنة خاصة، كانت تقف على مدخل المخيم لاستقبال الوفود، عزلَنا الاحتلال عن العالم فجلبْنا العالم إلينا، ومما ساعدنا أيضًا توفير سيارة رباعية العجلات لنا أسهمت في حل مشكلة المياه".

أسس المبعدون جامعة "ابن تيمية" التي ضمت 88 طالباً جامعيًّا، وتواصلوا مع الجامعات الفلسطينية لاحتساب المساقات التي تدرَّس فيها، وخرَّجت في الدفعة الأولى 15 طالبًا، اُعتمدت شهاداتهم في الجامعات الفلسطينية.

الدكتور مأمون أبو عامر وهو أحد المبعدين، يقول لصحيفة "فلسطين": "إن فتح الجامعة كان من مظاهر تعزيز الصمود واستغلال الطاقات، إذ كان من بين المبعدين أساتذة جامعات".

يعد أبو عامر قضية "مرج الزهور" أول نقطة تحول في تاريخ الصراع "الفلسطيني-الإسرائيلي" في ملف الإبعاد خاصة، إذ نجح الاحتلال في كل عملية إبعاد سابقة في ترحيل المبعدين، وإخراجهم من الأرض، ولم يرجع أحد منهم إلا مبعدي "مرج الزهور"، وعلى الرغم من قرار حكومة الاحتلال إبعادهم إلى منطقة جبلية باردة، أسسوا سُبل الحياة بمساعدة لبنانيين قدَّموا خدمات لتعزيز صمودهم، وعلى الرغم من محاولة الاحتلال التأثير في مقومات الصمود، لم يتزحزحوا.

وفق أبو عامر، استفاد المبعدون من الأجواء السياسية آنذاك، ونجحوا في إيصال رسالتهم إلى العالم.

وعلى الرغم من مراهنة الاحتلال، وعلى مدار سنة كاملة على قبول المبعدين بالواقع الذي حاول فرضه، نجحوا في كسر قرار الإبعاد، ووأدوا هذه السياسة في مهدها، فوافق الاحتلال في سبتمبر عام 1993م على عودة 189 مبعداً إلى ديارهم، وعاد الباقون في ديسمبر من العام نفسه.

لم يشهد أبو عامر -الذي كانت تلاحقه عدة "اتهامات"- عودة المبعدين إلى مدنهم والاستقبال الشعبي لهم، إذ نقله الاحتلال إلى السجن وأمضى عامًا ونصفًا، لكن طريقة الاستقبال رُويت له، ينقل ما رُوي له: "أُقيمت مهرجانات واستقبلت حشودٌ شعبية المبعدين، كانت عودة المنتصر"، عادًّا أن الحاضنة الشعبية كانت عاملاً مهمًّا في مواجهة الاحتلال منذ اليوم الأول للإبعاد.

لم تتخلَّ الحاضنة الشعبية عن احتضان المقاومة، فبعد ثلاثة عقود على الإبعاد، و35 عامًا من تأسيس حركة حماس، أحيا الناس ذكرى انطلاقة حماس في غزة قبل أيام، في حشود ضخمة لم يسبق لها مثيل، وهذا يؤكد وفق أبو عامر، أن العدوانات التي شنها الاحتلال لاجتثاث المقاومة منذ لحظة التأسيس، لم تنجح في ضرب الحاضنة الشعبية.