كانت عائلة مطير تستعد لقرع طبول فرحتين، تسابق الزمن لإتمام استعدادات حفل زفاف حفيدتها الجمعة المقبلة، ثم الاحتفال بزفاف ابنتها في الأسبوع التالي، فزينت المنزل واستعدت لاستقبال المهنئين بمخيم قلنديا شمالي القدس المحتلة.
نزل محمد مطير (37 عامًا) برفقة شقيقه مهند (19 عامًا) وثلاثة من أشقائهما بسيارتهم لمدينة نابلس السبت الماضي وأكملوا شراء بقية المستلزمات، لتنتهي فرحة رحلة تسوقهم بعد ساعات.
اقرأ أيضًا: اتفاق أولي بين "الليكود" و"القوة اليهودية" يُعزّز الاستيطان بالضفة
فأثناء العودة، وعند وصولهم إلى قرب حاجز "زعترة" العسكري المقام على طريق نابلس رام الله، انثقب أحد الإطارات فجأة ما دفعهم لإيقاف السيارة بعد الحاجز بقليل لإصلاحه، فترجل الأشقاء الخمسة من السيارة التي ركنوها في المساحة المخصصة للتوقف عند حدوث عطل ما، ووضعوا العاكس وأضاؤوا "فلشر السيارة"، قبل أن يبدؤوا بتبديل الإطار.
شقيقهم عبد الله الذي كان شاهدًا على جريمة الدهس التي ارتكبها مستوطن، يروي لصحيفة "فلسطين" التفاصيل قائلًا: عندما انتهينا من إصلاح الإطار، توجه مهند ومحمد لوضع الإطار التالف في صندوق السيارة، كانت الساعة الخامسة والنصف والرؤية واضحة، وكنا بعيدين عن حركة السيارات.
تطفو بقية التفاصيل على حديثه بصوتٍ يكسره الفقد ويرافقه الحزن: انحرف مستوطن بسيارته بسرعة كبيرة جدًا من مسافة 20 مترًا باتجاهنا مباشرة، وينوي صدمنا نحن الخمسة.
لا تزال الصدمة تسيطر عليه، إذ لا يتخيل أنه نجا: "تمكنت واثنان من إخوتي من النجاة في حين لم يتمكن مهند ومحمد، إذ دهسهما المستوطن القاتل ثم توقف على مسافةٍ بعيدة، وجاءت قوات الاحتلال وأحاطت به لحمايته.
وقف عبد الله وأشقاؤه في صدمة وهم يرون جسدَي شقيقَيهم ممزقةً، وقد فُصلت أجزاء عن بعضها البعض، حيث استُشهد محمد على الفور، ومهند ظلّ يتنفس قليلًا حتى فاضت روحه في المشفى.
فرح تحول إلى مأتم
فرحٌ تحول إلى مأتم، كثيرًا ما يتكرر هذا العنوان في حياة الإنسان الفلسطيني، فلا فرحة تتم ولا مراسم تكتمل "وهناك محتل يقتلنا ويدهس فرحتنا"، يردف شقيقهم.
اغترب محمد عن فلسطين خمسة عشر عامًا وعمل في دولة بنما عند أقارب له، لكنه وقبل ثلاث سنوات قرّر العودة إلى أرض الوطن بعدما غلبه الشوق والحنين إلى عائلته ومخيم قلنديا، فتزوّج ورُزق بطفلتين ريتان (5 سنوات) وروز (عامان)، وعمل بمصنع للبلاستيك في الداخل المحتل منذ 1948.
أما مهند فهو طالب بجامعة خضوري برام الله يدرس تخصص إدارة تقنية، كان ينتظر تخرجه ليلتحق بسوق العمل ويتزوج كباقي إخوته، هكذا كانت تسير حياتهما، وفق شقيقهما عبد الله.
محمد الذي كان يُخطّط لالتقاط صورة مع طفلتيه وهو يرتدي بدلته لتوثيق ذكرى فرحة العائلة بأجمل إطلالة، وجدت طفلتاه جموعًا غفيرة من الجماهير تحمل والدهما وهو مُكفّن بعلم فلسطين، دون أن يستوعبا فكرة أنه صار شهيدًا، وهما لا تزالان تنتظران الصورة التذكارية في لحظةٍ توقَّف عندها الزمن، وأدخلهما مبكرًا في اليُتم الذي تجهلان مرارته.
اقرأ أيضًا: حماس: الاستيطان بالضفة سيقابل بالصمود والمواجهة الشاملة
محمد ومهند، لديهم سبعة أشقاء (3 ذكور و4 إناث)، شقيقان أنيقان متشابهان في الملامح كثيرًا، تفاصيل الوجه، الشعر المقلوب للخلف والقريب من لون الشمس، الابتسامة وطول القامة، وُلدا في تاريخين متباعدين لكنهما رحلا في تاريخ واحد، فُصل فيه جسدَيهما وتوحَّدت روحَيهما.
لم يقفز عبد الله عن مشهد رؤيته أطراف جسدَي شقيقَيه وقد تناثرت في الطريق: "وقفت مصدومًا، لا يوجد مجال إلا البقاء في دهشة وصمت وأنت تراهما مُمزَّقَين بكلّ حقد من مستوطن مجرم يحميه جيش الاحتلال".
في المنزل كانت والدتهم تنتظر قدوم أبنائها الخمسة، ولم تتخيل أنه بين لحظة وأخرى سيعود ثلاثةٌ فقط، إذ تولَّى عبد الله مسؤولية إخبارها ومواساتها في آنٍ واحد: "كنتُ مترددًا خائفًا من صدمتها، فاتصلتُ بها وأشعرتها بالجريمة ووجود إصاباتٍ بيننا، حتى تتقبل الخبر تدريجيًّا".
جراح الذاكرة
جريمة دهس الشقيقين تُعيد إلى الأذهان جريمة إعدام قوات الاحتلال الشقيقين جواد ريماوي (22 عامًا) وشقيقه ظافر (21 عامًا) بعدما فتحت رشاشًا آليًّا من الجيب العسكري خلال اقتحام قرية "كفر عين" شمال غرب رام الله في 29 نوفمبر/ تشرين ثاني المنصرم.
استغاث ظافر الذي أُصيب أولًا بصوتٍ يوخزه الألم: "إسعاف إسعاف"، على مقربة منه وصل الصوت إلى أُذن شقيقه جواد الذي ذهب لإسعافه فقتله الجنود، لكنّ المستوطن المجرم لم يترك مجالًا للشقيقين محمد ومهند للاستغاثة.
كما فتح المستوطن بجريمته ذاكرة أبناء الشعب الفلسطيني على جرائم مماثلة، تلك التي ولَّدت انفجارًا فيما يُعرف بجريمة "المقطورة" عام 1987 التي ارتكبها مستوطن متطرف دهس بشاحنته 6 عمال فلسطينيين لتنفجر انتفاضة الحجارة.
بالطريقة نفسها ارتكب الاحتلال مجزرة "عيون قارة" عام 1990 التي نفّذها المتطرف "عامي بوبر" بجريمة إطلاق نار قُتل فيها 7 عمال فلسطينيين، ومجزرة المسجد الإبراهيمي عام 1994 التي ارتكبها المتطرف باروخ غولدشتاين وقُتل فيها 29 مُصليًا، ولا تزال دولة الاحتلال تُخرّج قتلة ومتطرفين يرتكبون جرائم بحماية رسمية.