أثارت صورة لاعبي المنتخب المغربي وهم يرفعون علم فلسطين، بعد انتصاراتهم في المباريات المفصلية، غضبا عارما في (إسرائيل)، وتعالت أصوات دعت «فيفا» إلى فرض عقوبات على المنتخب المغربي، لأنّه أقحم السياسة في رياضة كرة القدم. وصدم الإسرائيليون بمظاهر التضامن مع الشعب الفلسطيني والعداء العربي وغير العربي لـ(إسرائيل). ولحماية التطبيع من رياح المونديال، دعت شخصيات أمنية وسياسية إلى إحداث قفزة نوعية في العلاقة مع المغرب، وترميم سمعة (إسرائيل) لدى شعبها، عبر الاعتراف بسيادة المغرب على منطقة الصحراء الغربية، وعبر القيام بمبادرات اقتصادية وأمنية وسياسية وثقافية وسياحية، والشروع في تنفيذ المرحلة الثانية الأوسع والأعمق من التطبيع مع المغرب.
غضب إسرائيلي
أحست (إسرائيل) بالغضب وبخيبة الأمل من التضامن الواسع مع فلسطين، ومن رفع علم فلسطين، كما «اكتشفت» أن الشعوب العربية، في كل الدول، بما فيها دول التطبيع العلني والسرّي، معادية لإسرائيل ولجرائمها المتواصلة بحق الشعب الفلسطيني. وتكرر تعبير «أنّهم لا يحبوننا» في التغطية التلفزيونية والصحافية لمونديال قطر. وفي ما يشبه اليأس من إمكانية التواصل المباشر مع الشعوب العربية، لم يعد الصحافيون الإسرائيليون يقابلون عربا بالبث المباشر، بعد الأجوبة التي تلقوها على منوال «تسقط إسرائيل، عاشت فلسطين». وأكثر ما أغضب إسرائيل هو الجمهور المغربي، الذي رفع علم فلسطين وغنّى لها، والمنتخب المغربي الذي لم يأبه بتقييدات «فيفا»، ورفع العلم الفلسطيني على أرض الملعب بعد انتهاء المباريات.
صحيح أن اليهود من أصول مغربية فرحوا بانتصارات بلدهم الأصلي، واحتفلوا بانتصاراته الكروية، إلّا أن حملة شعواء في وسائل التواصل الاجتماعي، هاجمت المنتخب المغربي واتّهمته بمعاداة (إسرائيل) ودعت إلى «عدم الابتهاج» بما يحقّقه. وكتب «الرابر» الإسرائيلي اليميني المتطرف المسمّى «الظل» في صفحته على الفيسبوك: «في منتخب المغرب يبوحون برأيهم فينا، ويرفعون علم الإرهاب بعد انتصارهم على البرتغال. يا لله يا يهود يا حلوين افرحوا بمن يحلمون بالقضاء عليكم.. نحن أكبر أعداء أنفسنا، أنتم نكتة». وانتشرت هذه التغريدة بشكل واسع بعد مشاركتها من قبل عدد من نساء لاعبي المنتخب الإسرائيلي، وكتبت أحداهن: «أنا من أصول مغربية ولست فرحة بانتصار المنتخب المغربي، لأنهم يرفعون علم فلسطين». وإلى جانب خيبة الأمل كانت هناك الغيرة من إنجازات المغرب، حيث تكرر عن الصحافيين والمعلّقين والمدربين واللاعبين حديث: "كيف تستطيع دولة عربية فقيرة مثل المغرب أن تفعل كل هذا وإسرائيل القويّة والمتطوّرة لا تنجح حتى في المشاركة في المونديال؟"
استنتاجاتهم
يبدو أن المشهد المونديالي في الدوحة الداعم لفلسطين قد أزعج بزخمه، وفي حد ذاته، قيادات إسرائيلية وازنة، تخاف أيضا، وربما أكثر، أن تستمر مفاعيل التضامن والدعم لفلسطين لتشكّل جرفا معاكسا لمسيرة التطبيع. وفي هذا التوقيت بالذات دعا مئير بن شابات، الذي كان سابقا رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي ومستشار الأمن القومي ومهندس عملية التطبيع مع المغرب، إلى الإسراع في الاعتراف بالسيادة المغربية على منطقة الصحراء الغربية، وإلى إحداث نقلة نوعية في العلاقات الثنائية والإقليمية، ولو أن بن شابات لم يتطرّق في مقاله إلى دوافع مقترحاته، إلّا أن الاحتمال الأرجح هو أنّها تأتي على خلفية الخشية من تراجع التطبيع بأثر الضغط الشعبي، الذي ظهر في المونديال. يبدو أن التحليل الإسرائيلي للتطبيع مع المغرب، هو أنه لن يصمد أمام رفض شعبي قوي، واعتراف إسرائيلي بالسيادة على الصحراء، سيخفف هذه المعارضة، بالضبط كما رأى الكثيرون في المغرب حدث التطبيع عام 2020، بأنّه هامشي، مقارنة بما صحبه من اعتراف أمريكي بسيادة المغرب على الصحراء، وانعكس هذا الأمر في الاستطلاعات، حيث تعارض غالبية ساحقة من المغاربة التطبيع العربي، وأغلبية أقل من ذلك تعارض التطبيع المغربي، على اعتبار أنه مرتبط بقضية الصحراء، التي لها مكانة مهمة في وجدان الشعب المغربي.
شرطة واعتقالات
شارك فلسطينيو الداخل أمّتهم العربية وشعبهم الفلسطيني في الاحتفال بإنجازات المنتخب المغربي، وعمّت الفرحة ربوع الجليل والنقب والمثلث والساحل إلى جانب القدس والضفة الغربية وغزّة. لكن التعبير عن البهجة والسرور لم يرق للشرطة الإسرائيلية، التي اتهمت الشباب بالتعبير المفرط عن الفرح، وقامت بحملة اعتقالات واعتدت على المحتفلين، بحجة إثارة الضجيج في ساعات متأخّرة، وإطلاق الصفّارات من السيارات، والتجمهر في الشوارع العامة إلى جانب الألعاب النارية وهتافات تمجّد المنتخب المغربي. واعتبر الإعلام الإسرائيلي هذه الاحتفالات بأنّها أعمال شغب وتوعّدت الشرطة بأنها ستضرب بيد من حديد ما سمته الاحتفالات المنفلتة، وأضافت بأنّه لا مانع من الاحتفال في هدوء. وصل الأمر ببعض وسائل الإعلام الإسرائيلية، أن تدّعي أن مظاهر الفرح الفلسطيني هي مظاهرات معادية لإسرائيل يحرّكها رفع العلم الفلسطيني في ملاعب الدوحة، وليس مجرّد فوز المنتخب المغربي. وتخشى إسرائيل فعلا أن ترفع الإنجازات الكروية العربية من معنويات الشباب الفلسطيني، الذي قد يواصل التظاهر والتحدّي بعد انتهاء المونديال. وربما تحتاج الدولة الصهيونية إلى خبراء نفسيين لتفسير حالة الهلع الإسرائيلية من الفرح الفلسطيني، خاصة في مدن مثل القدس وعكّا وحيفا واللد والرملة ويافا، فالقضية سياسية بالتأكيد لكنّها نفسية أيضا.
الرياح الكروية وسفينة التطبيع
تجري الرياح الكروية بما لا تشتهيه سفينة التطبيع، وكما ظهر في الدوحة في الأسابيع الأخيرة، فإنّ الشعوب العربية ضد التطبيع، مهما كان موقف الأنظمة. لقد كان هذا الأمر معروفا قبل المونديال، لكنّه لم يظهر في هذا الوضوح وفي هذه الحدّة. إسرائيل من جهتها، بدأت بإجراء حساباتها لحماية التطبيع القائم عبر توريط الأنظمة بعلاقات أقوى، ومحاولة اختراق المجتمعات العربية اقتصاديا وثقافيا. وطرحت في الأسبوع الحالي فقط عشرات المقترحات لتوثيق العلاقة بالمغرب، منها مثلا مبادرة اقتصادية لزراعة الحبوب في السودان، بحيث تساهم إسرائيل بما لديها من معرفة وتكنولوجيا والمغرب بالأسمدة الفوسفاتية، ومنها أيضا مساهمة إسرائيلية مباشرة في الجهد الأمني المغربي في الصحراء وضد الجزائر، إلى جانب الاعتراف بالسيادة المغربية على المنطقة الصحراوية، وكذلك طرحت مجددا مقترحات التعاون الأكاديمي، وتبادل الطلّاب وإقامة النشاطات الثقافية المسرحية والفنّية، بالإضافة لذلك تحاول إسرائيل تضخيم الدور الإيراني في دعم جبهة البوليساريو، وفي التعاون مع الجزائر وجيشها، لجر المغرب إلى التطبيع الأمني العسكري الكامل.
تحلم إسرائيل بأن تصل علاقاتها بالمغرب وغيره إلى حد لا يمكن الاستغناء عنها. فهي تخشى أن تؤدّي مواجهات في القدس والأقصى وغزّة والضفة إلى رد فعل عاصف في المجتمعات العربية، يدفع بعض الحكومات إلى التفكير في تجميد التطبيع والتراجع عن بعض مكوّناته. وما يجري في الدوحة هو ضوء أحمر قانٍ أمام استراتيجية التطبيع الإسرائيلية.
وقاحة إسرائيلية
ولو أن (إسرائيل) تسعى إلى علاقة قوية مع المغرب، إلّا أنّها لا تستطيع إخفاء استهتارها واستخفافها بالعرب عموما وخصوصا، فهي لا تقبل بعلاقة متكافئة من حيث المبدأ، وتريد للمطبّع العربي أن يتخلّى عن عروبته وعن ارتباطه بقضايا الأمة وفي مقدمتها قضية فلسطين، ووصل الاستخفاف الإسرائيلي إحدى ذرواته خلال كلمة ألقاها رئيس الأركان الإسرائيلي، الجنرال أفيف كوخافي، أمام الطائفة اليهودية في المغرب، حيث قال: «المغرب كدولة هي حليفتنا.. أنا فخور بلقائكم وقسم منكم حاربوا دفاعا عن إسرائيل». وأوضحت كل وسائل الإعلام الإسرائيلية أن كوخافي يقصد يهودا مغاربة شاركوا في حرب أكتوبر/تشرين الأول 73، ثم عادوا إلى المغرب. لقد شارك الجيش المغربي في هذه الحرب إلى جانب الجيش المصري والجيش السوري، وخاض معارك باسلة خاصة في القنيطرة على الجبهة السورية، وبلغ عدد شهداء المغرب 170 شهيدا. والسؤال: كيف تقبل أي دولة في العالم أن يقوم زائر عندها بتمجيد مواطنين فيها حاربوا جيشها؟ كوخافي يعرف جيّدا عن مشاركة المغرب في حرب أكتوبر، لا بل يعرف ذلك بالتفصيل، لكن يبدو أن عمق الاستهتار بالعرب يجعله يقول ما قاله طبيعيا وتلقائيا، دون أن تخطر في باله دلالات وتبعات ذلك.