على الحافة الإسمنتية الملاصقة لحوض ميناء غزة، غربي المدينة المحاصرة، يقف الصياد الأربعيني أسامة أبو عودة وقد بدت عليه ملامح التردد من بدء رحلة صيد جديدة خشية أن يعود إلى أهله مصابًا أو بِخُفّي حنين كما في أغلب الأحيان.
ومارس أبو عودة الصيد عن ظهر حب ووراثة منذ نهاية عقده الثاني، متخذًا إياه مصدر رزق يعينه على متطلبات الحياة ومتاعبها، ولكن منذ قرابة العشر سنوات لم تعد مهنة الصيد ذات جدوى بل أصبحت المهدد الأكبر لحياة صاحبها والسبب بذلك اعتداءات الاحتلال الإسرائيلي.
ويتعرض صيادو القطاع الساحلي، البالغ عددهم نحو أربعة آلاف صياد، لمضايقات إسرائيلية تأخذ أوجهًا متعددة وشكلًا متصاعدًا، تبدأ بإطلاق النار المباشر نحو المركب، إلى أن تصل لضربهم في عرض البحر واعتقالهم عنوة مع مصادرة معدات العمل وتخريبها.
دون جدوى
يقول أبو عودة لـ"فلسطين": "ظروف الصيد باتت من سيئ إلى أسوأ والأوضاع المعيشية لعائلتنا لا تطاق في ظل الحصار الخانق والمضايقات غير المبررة التي نتعرض لها دون سابق إنذار، رغم التزام جميع الصيادين بمساحات العمل القليلة التي يحددها جنود البحرية وفق مزاجهم ليس إلا".
ورغم تلك المخاوف التي تعتري قلب الصياد ذي البشرة القمحية، إلا أنه ملتزم بالحضور بشكل يومي إلى الميناء، مضيفا: "أصبح من سابع المستحيلات أن يمر يوم دون أن تسمع عن خبر اعتقال لصياد أو إطلاق النار عليه أو مطاردته في عرض البحر وتغريق مركبته أو مصادرتها".
ويصف أبو عودة موسم الصيد الجاري بـ"عديم الجدوى"، ويعلق على ذلك "يعد موسم السردين مثلا، من أفضل المواسم عندنا كصيادين ولكن موسم السردين الماضي كان بلا سردين، والسبب بذلك يعود إلى مضايقات الاحتلال وتحديد أماكن الصيد في رقع صغيرة وخالية من الأسماك غالبا".
وتثبت الانتهاكات اليومية التي يتعرض لها رواد البحر عدم التزام الاحتلال باتفاق التهدئة الأخير الذي أعقب حرب 2014، حيث نص على حرية عمل الصيادين في نطاق 12 ميلًا بحريًا وعدم التعرض لهم.
وفي مطلع شهر مايو/أيار الماضي سمحت سلطات الاحتلال لصيادي غزة، بالدخول إلى منطقة التسعة أميال البحرية بدءاً من منطقة وادي غزة وسط قطاع حتى مدينة رفح جنوبا، بعد أن كانت مساحة الصيد المسموحة ستة أميال فقط.
تجربة مأساوية
أما الصياد عمر عياش فلا يغالي بالحديث عن ظروف عمله في عرض بحر غزة المحاصر، بل يكتفي بالقول: "الصيد في هذه الأحوال هو أقصر الطرق وأسرعها إلى الموت، فنحن لا نخشى غدر البحر وخطر أمواجه المتقلبة فقد تآلفنا عليه، ولكن رشاشات الاحتلال هي التي ترعبنا".
ويضيف عياش لـ"فلسطين": "منذ سنوات نتجرع مرارة أزمات مختلفة الأشكال، كمنع الاحتلال إدخال المواد اللازمة لصيانة وصناعة المراكب كإحدى إجراءات الحصار وارتفاع أسعار المحروقات وانقطاعها في بعض الأحيان، فضلا عن حصر مناطق الصيد في نطاق لا يتجاوز تسعة أميال في أحسن الأحوال".
ونصت اتفاقية "أوسلو"، التي وقعت بين السلطة الفلسطينية والاحتلال عام 1993، على السماح للصيادين بالعمل في مساحة 20 ميلا بحريا، ولكن الاحتلال قلص على مدار السنوات التسع الماضية المساحة تدريجيا، بين ثلاثة وستة أميال وذلك بحجج أمنية مختلفة.
وعايش الصياد محمود صالح في مطلع العام الجاري ظروف تجربة مأساوية لن ينسى تفاصيلها، بعدما طارده "زورق إسرائيلي" أثناء عمله قبالة سواحل مدينة خان يونس، جنوب القطاع، قبل أن يضطر لإيقاف مركبه عندما شرع جنود بحرية الاحتلال بإطلاق النار نحوه بشكل مباشر ومكثف.
ويقول صالح لـ"فلسطين": "فور إيقاف المركب أجبرني أحد الجنود على خلع ملابسي والقفز داخل المياه التي كانت شديدة البرودة آنذاك، ثم اعتقلوني مع مجموعة من الصيادين وشتمونا بأقبح الألفاظ، وبعد ذلك مزقوا شباكنا وكسروا مراكبنا أمامنا".
ويشير صالح إلى أن أغلب من يمارس مهنة الصيد في الوقت الحالي يفكر في هجر البحر لولا انعدام مصادر الدخل الأخرى والخشية من التوغل أكثر في وحل الفقر، مطالبًا المؤسسات الإنسانية والخيرية بدعم الصيادين سواء ماديا أو بالمعدات ومستلزمات الصيد التي يمنع الاحتلال إدخالها عبر معبر كرم أبو سالم التجاري.
وتقلصت أعداد الصيادين الغزيين تدريجيا منذ عام 2000، من نحو عشرة آلاف صياد إلى قرابة أربعة آلاف، يعيلون أكثر من 50 ألف نسمة، وموزعون على ست مناطق صيد تفتقر إلى أدنى مقومات الصيد البحري، وهي شاطئ مدينة غزة والنصيرات ودير البلح وخانيونس ورفح وشمال القطاع.