هرع محمد أبو ريا وأفراد أسرته لحظة توارد الأنباء عن اندلاع حريق في منزل أقرباء لهم للمساعدة، كانت النيران شديدةً، ولهيبها يمنع أحد من الاقتراب، الجميع وقف أمام صرخات واستغاثة الأطفال الذين توارت ابتسامتهم خلف رعب جسد ورجفة قلب وصوت مرتعد من بين حمم النيران: "أنزلونا.. أنزلونا" عندما تسلقوا النوافذ محاولين كسر شِباك الحماية الحديدية كانوا تحت حصار النار وخلف حصار أكبر يحيط بغزة، قبل أن ينقطع الصوت ويسكت وتغيب ملامحهم بين ألسنة اللهب الكاوية.
استطاع الجيران ورجال الإطفاء فتح ثلاثة أبواب مغلقة، لكنهم عندما وصلوا ضربوا أخماسًا بأسداس، فقد كانت النيران التهمت جميع من في البيت وحوّلتهم لجثث متفحمة، وجدوا كلَّ أمٍّ متفحمة تحتضن أطفالها تتلقف النيران عنهم لكنها أخذتهم جميعًا، فلم ينجُ أحد من أفراد العائلة ليرحل 21 شهيدًا، قائمة طويلة تضم الجد والابن والحفيد.
لتوّهم تجمعوا على مائدة الفرح، فجاءت النيران من الخلف هائجة تلتهم كل شيء، أحلامهم، ملابسهم، أجسادهم تسلب شهقاتهم، انطفأت ألسنة اللهب بعد جهود بذلها رجال الدفاع المدني وانتشلوا جثث الضحايا، لكنّ الحريق امتد وزحف لكلّ قلوب أبناء الشعب الفلسطيني، الذين غسلوا أرواحهم بالدموع قبل مواراتهم تحت الثرى.
في مسجد الخلفاء الراشدين بمخيم جباليا، تراصّت الجثامين على أربعة صفوف، عاشوا مجتمعين ورحلوا متجاورين، كروح واحدة في 21 جسدًا.
أمامك قافلة من شهداء الحريق ممتدة من الجد إلى الحفيد، وهم: الحاج الدكتور صبحي أبو ريا وزوجته يسرى، وابنهم المهندس ماهر وزوجته أريج رفيق أبو ريا، وأولاده وبناته: عبد الله، ويسرى، وريم، ومريم، وجنى، والشهيد الدكتور نادر أبو ريا وزوجته روز الكحلوت، وأولاده وبناته: كرم، وأمير، وريتا، ورزان، والشهيدة فدوى صبحي أبو ريا، وابنتها، وكذلك الشهيدة سارة صبحي أبو ريا، والشهيدة فاتن صبحي أبو ريا، وأطفالها: معتز ورهف وبتول محمد جاد الله.
بجانب صفوف الجثامين، يحاول محمد أبو ريا حبس دموعه، يحفر الحزن مخالبه على ملامح وجهه، يحدق بالجثامين بعينيه المحمرَّتين اللتين لم يزرهما النوم، يقول لصحيفة "فلسطين" بصوتٍ محترق بالوجع: "كانت ليلة مؤلمة، جئنا كما جاء الناس لنساعد".
يلتصق المشهد بذاكرته يطبق اللسان على الوصف: "عندما وصلنا المشهد كان مؤسفًا، الناس محتشدة، رجال الأمن يُطوّقون المكان، وصل رجال الإطفاء، لم تكن النيران تنمو شيئًا فشيئًا بل بدأت مشتعلة منذ اللحظة الأولى بشكل لم يشهد له مجتمعنا مثيلًا".
عائد من السفر
صباح الخميس، زار طلعت أبو معيلق صديقه ماهر أبو ريا في مكتبه بوزارة الحكم المحلي، بدأ اللقاء بمزاحٍ بين الصديقين بعدما لاحظ الأول أناقةً ونضارة وجه صديقه مختلفا عن كل مرة: "شايفك منور بزيادة يا ماهر" رسمت كلماته ابتسامة على وجهه، ليبادل صديقه الضحك: "يمكن مع مية النيل"، ثم باح بأمنية تختبئ في قلبه: "والله بدي كمان سفرية، وحدة بتكفيش"، وتواعدا على سفرٍ آخر برفقة بعضهما.
بعد ساعات أرسل أبو ريا رسالة على مجموعة واتساب تضم صديقه المفتي وعدة مسؤولين من جهات وزارية مختلفة، يُذكّرهم بموعد اجتماع مقرر الثلاثاء المقبل، لم تمض ساعات طويلة حتى وقف المفتي كبقية أبناء شعبه أمام الفاجعة والحريق الضخم.
بصوتٍ يكسره الحزن يقول لصحيفة "فلسطين": "صدمت من الحادثة، لم أتوقع أن يكون من ضمن الشهداء، أرسلت له رسالة، لكنها لم تصل، تابعت الأخبار حتى أُعلن اسمه من بين الأسماء الثلاثة الأولى التي جرى انتشالها".
يعلق بقهر: "أشعر كأني أعيش في حلم، كان صديقي لسنوات، دخلت بيته وتعرفت على والديه".
رافق طلعت أبو معيلق، الذي يشغل منصب المدير العام للتفتيش وحماية العمل بوزارة العمل، زميله ورفيق دربه المهندس ماهر أبو ريا الذي يشغل منصب المدير العام للحرف الخطرة بوزارة الحكم المحلي، لحضور مؤتمر دولي في مصر حول السلامة والصحة المهنية.
ويحمل أبو ريا رسالة الماجستير في القيادة والإدارة، وهو مهندس مدني عمل لمدة عشر سنوات بوزارة العمل، وتولى آخر منصب مدير عام التفتيش وحماية العمل قبل الانتقال للحكم المحلي قبل عام ونصف.
ترافق الصدمة صوت أبو معيلق وكأنه يعيش في حلم "خرجت معه للقاهرة لحضور المؤتمر الدولي بصفتنا الوظيفية إضافة لدورة تدريبية ومكثنا هناك مدة أسبوعين، بحكم طبيعة عمل أبو ريا بالرقابة على المهن الخطرة والتي تختص بتوفير بيئة عمل آمنة، وتركز على محطات الغاز والبنزين، والمنشآت التي بها نسبة خطورة عالية"، نافيًا، ما أشيع بوسائل الإعلام أنه ذهب لدراسة الدكتوراه في مصر.
لأول مرةٍ يسافر أبو ريا، ويتجاوز الحصار الإسرائيلي، ويتنفس هواءً خارج تلك السياج، ذاكرة المفتي شاهدة على هذه اللحظات السعيدة في حياة زميله، يروي: "كان منطلقًا، طوال مدة السفر كان ينام قليلًا، أذكر كلماته لي وهو يعارضني عندما أطلب منه النوم أكثر قائلًا: "يا زلمة أول مرة أسافر بدي أشوف كل شيء"، حتى أنه كان يريد المكوث هناك فترة أطول، لكنّ والديه أصرّا عليه العودة معنا".
يستذكر موقفًا علق من رحلة السفر: "انتهى تدريبنا الساعة الخامسة في أحد الأيام، وأصر على الذهاب لمسجد الحسين بالقاهرة، ثم ذهبنا لشارع "المُعز" وأجهدنا الطريق، لكنه رفض العودة، وأصر على الذهاب لنهر النيل، واستقل مركبًا" يعلق: "كان سعيدًا، أحب رؤية كل شيء، لم يضيع ولا دقيقة، وكأنه كان يعلم أنه آخر سفر له".
يرثي صديقه: "كان طموحًا جدًّا، ومجتهدًا في عمله، ولأجل ذلك ترقّى في وظيفته، كان ودودًا بسيطًا مع الجميع كأنك تعيش معه عمرًا".
لم يعرف أبو معيلق سبب لمّة عائلة صديقه، لكنه يذكر أنه "سمع رسالة أرسلتها له ابنته، أثناء سفرهم: مشتقالك يابا، بديش أعمل الحفلة إلا لما ترجع".
المعلمة والأم المثالية
بينما كانت تتابع إسلام أبو ندى، الأخبار مرّت على حدث احتراق منزل لعائلة أبو ريا، وصور لأفراد العائلة، قبل أن تتوقف بكامل اتساع عينيها لا تصدق ما تشاهده لصورة زميلتها المعلمة روز الكحلوت، ثم بدأت تسأل على المجموعات الإخبارية، إن كان الخبر صحيحًا وتتمنى أن يكون غير ذلك.
إسلام أبو ندى، معلمة لغة عربية وهي زميلة روز الكحلوت تخصص جغرافيا وزوجة الصيدلي نادر أبو ريا، تقول لصحيفة "فلسطين": "لم أكن أعرف أنّ البيت المحترق لعائلة صديقتي المعلمة روز، التي تعرَّفت عليها خلال مدة قصيرة بمدرسة حمد بن خليفة الثانوية واستلمنا عقدنا بنفس الوقت واليوم".
بعد تعب وسهر نجحت المعلمة الكحلوت، وحصلت على عقد توظيف بمدرسة حمد بن خليفة، "كانت تُعلّم أيضًا مادة الثقافة العلمية، حضرت لها حصة دراسية ورغم أنّ المادة ليست تخصصها لكنها أبدعت فيها، وتميّزت، كانت تستخدم التطبيق العلمي، فمثلًا تحضر معها أدوية وأعشاب وزعتر ومرمرية لتسهيل توصيل الدروس للطلبة".
أدركت أبو ندى أنّ زميلتها معلمة وأم عظيمة وهذا يتجلى بتفوق أبنائها، تضيف "ذهبتُ مرةً معها لمدرسة ابنها كرم، لتسأل عنه، ثم ذهبت لتسأل عن ابنتها، وكانت دائمة المتابعة لهم، أدركت كم هي أم ومعلمة مثالية".
في مسجد الخلفاء الراشدين، يلقي الطفل أنس العبسي نظرة الوداع على جثامين الشهداء المُكفّنة بأعلام فلسطين، ولا يعرف جثمان زميله في المدرسة ومركز تحفيظ القرآن الكريم بالمسجد، كرم أبو ريا، اغرورقت عيناه بالدموع كحال معظم من تصادفهم بالمسجد، يرثي زميله: "كرم يدرس معي بالصف السابع، متفوق يحفظ أجزاءً من القرآن الكريم، آخر مرة قابلته قبل أسبوع ذكّرني بالالتزام بالمسجد".
يستحضر لحظات الحريق "كنا خائفين، كانت النيران شديدة".
كانت النيران شديدة لم تعطهم فرصة للنجاة ولا للتنفس ولا للحياة، لكلّ واحد منهم تفاصيل أخيرة كان يفعلها قبل أن تباغتهم، ليرحلوا أقمارًا ينيرون ليالي غزة المظلمة بوجع الحصار المفروض على أبنائهم.