لم يساور الشك السبعيني برهان جراب من سكان محافظة نابلس وهو يقود شاحنته القديمة المحملة بالخضراوات عندما حطت عند مشارف بلدة دير شرف مساء الثلاثاء الماضي، ولاحظ تجمعًا لعشرات المستوطنين، لم تساعده مصابيح الشاحنة في كشف ملامحهم، أو "نواياهم الغادرة".
بمجرد اقترابه لمسافةِ عشرين مترًا منهم، الساعة العاشرة، حتى نزلوا إلى الشارع، وبدأت الحجارة التي يلقونها عليه تخترق زجاج غرفة القيادة، فأصابته في رأسه وكتفه.
قفز الحاج من الشاحنة تملأ الدماء وجهه، وركض بعيدًا عنهم في نقطة أوقفه فيها جيش الاحتلال، في حين استفرد المستوطنون بالشاحنة، فأحرقوا غرفة القيادة، والصندوق الخلفي، ثم ألقوا صناديق الخضراوات أرضًا، وداسوا عليها بأقدامهم، وأدوا رقصاتهم الاستفزازية على أطلال خسارة ألحقوها بالسائق الفلسطيني.
"رصاصة في القلب"
اكتفى الحاج برهان بإلقاء نظرات حسرة على شاحنته من بعيد، وهو يمسح بقع الدماء التي تملأ وجهه بملابسه، فكان مشهد إحراق "الشاحنة أشبه برصاصة أصابت قلبه".
"كانت الساعة العاشرة ليلاً، رأيتُ شبانًا يرتدون ملابس مدنية، وكانوا أكثر من عشرين شخصًا، اعتقدت أنهم فلسطينيون ضلوا الطريق، فخفضت السرعة؛ لأنني كنت سأساعدهم، لكنه اتضح أنهم مستوطنون، للأسف غدروا بي، وكانوا يريدون قتلي" الحسرة تملأ صوته وهو يروي لصحيفة "فلسطين" تفاصيل الحدث.
يلقي نظرةً على بقية التفاصيل: "أصابت الحجارة التي كانت بحجم كفة اليد سبعة مناطق من جسدي، ورأسي، وكتفي الأيمن في أثناء وجودي في الشاحنة، ثم عندما قفزت استمروا بإلقاء الحجارة فأصابت ظهري وقدمَيَّ وأذني ووجهي".
"من شدة الألم والجروح الغائرة شعرت كأنني أغسل وجهي بالنار عندما كنت أنظف الجروح بالمياه، فلم أتحمل تلك الحروق" هكذا عاش الرجل السبعيني ليلةً داميةً كان قريبًا فيها من الموت.
"كقطيع الأغنام"
لحسن حظه أن إسعافًا فلسطينيًا مرَّ من المكان في أثناء توقيف جنود الاحتلال له، في لحظةٍ اعتقد أنهم سيتركونه فريسةً للمستوطنين الذين كانوا ينتظرون انفضاض جيش الاحتلال عنه ليكملوا جريمتهم بالمهمة التي خرجوا من أجلها "القتل"، هذا ما أيقنه الحاج برهان: "شعرت أن الله أرسل الإسعاف إليَّ، ونقلني إلى مستشفى طولكرم، كانت الدماء تنزف من وجهي بسبب الجروح، وهناك أجروا لي الإسعافات الطبية، واتصلت بأبنائي الذين حضروا ونقلوني للبيت".
يصف مشهد الاعتداء: "رأيتهم كقطيع الأغنام يهجمون عليَّ ويرجمونني بالحجارة من بعد عشرين مترًا".
والشاحنة التي يملكها الحاج برهان قديمة، وربما أصبحت من الشاحنات النادر مشاهدتها، إذ تعود سنة إنتاجها لمطلع سبعينيات القرن الماضي، وهي من طراز "بيد فورد".
انتشرت هذه الشاحنة كثيرا في تلك الفترة في خطوط النقل بين الأردن وفلسطين، وكان يطلق عليها اسم "العمانيات" ومعروف عنها أنها ذات قدرات عالية في نقل حمولة ثقيلة والسير لمسافات طويلة، ومن عيوبها صوت محركها المزعج، وهي تسير على ستة إطارات، اثنان في الأمام وأربعة في الخلف.
شوه الحريق لون طلائها الأزرق الذي تلحظه في الجزء الناجي من الحريق من مقدمة هيكل الشاحنة، في حين اكتست معظم أجزائها وصندوقها الخلفي باللون البني الداكن بعدما أكلت النيران الطلاء ووصلت إلى هيكله، ونهشت القواطع الخشبية في الصندوق الخلفي المخصص لنقل البضائع.
عزيمة وإصرار
اشترى الحاج برهان الشاحنة في منتصف الثمانينيات، وكانت "وفية له ورفيقة عمره" حسب تعبيره، وهو يصر على إعادة إصلاحها مهما كلف الأمر من ثمن، يقول متحديًا: "هذه الشاحنة علمت بالدخل الذي توفره لي، ثلاثة من أبنائي بالجامعات، وحافظت عليها منذ أن اشتريتها".
يشحن نفسه بالنصر والإيمان والعزيمة والإرادة: "لو يكلف إصلاحها ملايين الشواقل سأعيد الحياة لها، وسأعود خلال أسبوع للعمل بها، بعد أن تنتهي عملية الإصلاح من أثر الحريق، خاصة أن النيران لم تأكل الماتور، ويمكنني تعويض القواطع الخشبية بأخرى حديدية، وإعادة طلائها كما كانت".
ما يعطيه دافعية إعادة تأهيلها وصيانتها هو تقدمه في السن، يردف: "لا يمكنني الجلوس بالبيت، لذلك أريد إمضاء وقتي في العمل ونقل المزارعين والبضائع وتوفير دخل للعائلة".
مرارة مشهد الاعتداء والخسارة التي تعرض لها أنزلت دموع عينيه التي بللت صوته "لقد تحملت خسارة الحمولة التي كانت تضم صناديق بندورة وحمضيات (برتقال وكلمنتينا)، وطوال عقود طويلة أعمل على خط القرى المحيطة بنابلس، ولم أتعرض من قبل لاعتداء، ولم يسبق لي أن تدخلت في السياسة أو فيما شابهها".
لكنه وصل لقناعة "أن المذنب وغير المذنب يضربهما الاحتلال والمستوطنون بالعصا".