لم يكن لدينا أي أوهام بشأن الانتخابات الإسرائيلية التي انتظمت في الأول من نوفمبر/ تشرين الثاني الجاري، إذ كان واضحاً أن التنافس يجري بين يمين عنصري ويمين عنصري آخر. لكن ما حدث كان أسوأ من أكثر التوقعات سوءاً، إذ مثّل صعود الفاشية إلى الحكم أخطر ما ميّز تلك الانتخابات، ولا يعني ذلك أن الحكومات الاسرائيلية لم تقم بممارسات فاشية من قبل، ولكن صعود حزبي سموتريش وبن غفير وحصولهما على 14 مقعداً في البرلمان الإسرائيلي ليصبحا ثالث أكبر قوة فيه، ودخولهما المؤكد إلى الحكومة، مثّل انعطافاً خطيراً نحو الفاشية المُمأسسة ممثلة في الحزب الذي يتّبع قادته أفكار كهانا وحزب كاخ الذي سبق أن منع حتى في إسرائيل، وصنّف حركة إرهابية في الولايات المتحدة.
إيتمار بن غفير الذي حوكم مرّات عديدة بسبب جرائمه، أعلن أنه يقتدي بمرتكب مجزرة الحرم الإبراهيمي في الخليل باروخ غولدشتاين، وأن هدفه طرد الفلسطينيين، أي تكرار ما جرى في نكبة عام 1948 من تطهير عرقي، ويدعو إلى ضمّ الضفة الغربية، وتهويد كامل للقدس وإرساء الوجود اليهودي داخل المسجد الأقصى.
وبالمناسبة، يضم التجمع الحزبي الفاشي كذلك قادة أشد تطرفاً من بن غفير وسموتريش، ومنهم قادة عصابات "فتيان التلال" من المستوطنين المستعمرين المتخصصين في الاعتداء على الفلسطينيين وممتلكاتهم، ومنهم من أقدم على حرق فلسطينيين وهم أحياء، مثل أسرة دوابشة، والشهيد محمد أبو خضير. ويضاف إلى ذلك أن مجموعة دعاة بناء الهيكل المزعوم على ركام المسجد الأقصى أصبح لها 26 عضواً في البرلمان الإسرائيلي.
الأمر الثاني الذي ميّز الانتخابات الإسرائيلية كان صعود الأصولية الدينية اليهودية المتطرّفة ممثلة في اليهودية الصهيونية الفاشية وحزبي شاس ويهوديت هتوراة، وتساوت هذه الأحزاب الدينية مع الليكود المتطرّف في الحصول على أعلى الأصوات بمعدل 32 عضو كنيست لكل منها. والتحالف الحاكم المتوقع سيتكون من هذه الأحزاب والليكود، إلا إذا قدم غانتس نفسه ليكون ورقة توت للحكم الفاشي المقبل.
التطور الثالث والمهم جداً أن المستعمرين المستوطنين الصهاينة القاطنين بشكل غير شرعي حسب القانون الدولي في القدس والضفة الغربية، والذين يصل عددهم إلى 750 ألف مستعمر، أصبحوا قوة سياسية مقرّرة في الحكومة والسياسة الإسرائيليتين، وسيكون لهم تسعة أعضاء في الكنيست، وعدد من الوزراء، بمن في ذلك بن غفير المقيم في مستعمرة كريات أربع في الخليل، وسموتريش القاطن في مستعمرة كدوميم قرب قرية كفر قدوم.
أما التطور الرابع فهو انهيار ما سمّي "اليسار الصهيوني"، رغم قناعتنا بعدم إمكانية الجمع بين اليسارية والصهيونية، إذ إن كل حزب صهيوني يميني بطبعه، إلا أن فشل حزب ميرتس في اجتياز نسبة الحسم وانخفاض مقاعد حزب العمل الذي حكم (إسرائيل) عقوداً إلى الحد الأدنى يعني نهاية حقبة وهم "اليسار الصهيوني".
ما أثبتته الانتخابات الإسرائيلية كذلك فشل نهج تملق الحركة الصهيونية، وهو نهجٌ استخدمه منصور عباس وحزبه ، بدعمه حكومة نفتالي بينت ويئير لبيد المتطرّفة، واعترافه بيهودية "دولة إسرائيل". إذ لم يزد هذا التملّق الإسرائيليين إلا تطرّفاً، وما فشل أيضاً كان نهج المهادنة للحركة الصهيونية، وتيار الحوار معها، والمراهنة على مفاوضات وحل وسط. ما قاله غالبية اليهود الإسرائيليين بأصواتهم، وأيديهم، وأرجلهم، كان واضحاً من دون لبس، أنهم لم يكونوا، وليسوا معنيين، على الإطلاق، بحل وسط مع الفلسطينيين، ولم، ولن يسمحوا بقيام دولة فلسطينية مستقلة.
هناك آثار سياسية جدّية بالغة الخطورة لما يجري، إذ حصل نتنياهو، الملاحق بقضايا الفساد، على تفويض إنشاء حكومة مستقرة لأربع سنوات مقبلة، وذلك يعني موت ما سمي "حلّ الدولتين"، وتكريس واقع "دولة واحدة بنظام أبارتهايد عنصري"، وعودة صفقة القرن المشؤومة، باعتبارها خطة متكاملة لتصفية القضية الفلسطينية، وقد بدأ نتنياهو ذلك بإعلانه أنه سيوسّع التطبيع مع المحيط العربي على حساب الفلسطينيين حتى "يعودوا إلى رشدهم" كما قال، أي حتى يستسلموا له!!
وقبل الإشارة هنا إلى المطلوب فلسطينياً لمواجهة هذه التحدّيات الخطيرة، لا بد من القول إن انعطاف المجتمع الإسرائيلي نحو العنصرية اليمينية المتطرّفة والفاشية، لم يكن ليجري بهذه الصورة، لولا صمت المجتمع الدولي على جرائم (إسرائيل)، والسماح لها بأن تكون فوق القانون الدولي، وفوق المحاسبة، وإصرار دول غربية كثيرة على ازدواجية المعايير الدولية كلما تعلق الأمر بفلسطين.
هناك خمسة أمور مطلوبة فلسطينياً للردّ على هذا التطور الخطير: أولها: إنهاء الانقسام الداخلي فوراً، والتخلي عن أوهام الحل الوسط والمفاوضات، ونهج أوسلو برمّته، وتوحيد الفلسطينيين في قيادة وطنية موحدة على نهج واستراتيجية وطنية كفاحية مقاومة، هدفها تغيير ميزان القوى المختلّ لمصلحة (إسرائيل)، وذلك يعني الوقف الكامل للتنسيق الأمني، وتطبيق قرارات المجلس المركزي المتّخذة منذ سبع سنوات، والتحلل من اتفاق أوسلو والتزاماته، وهو الأمر الوحيد الذي يمكن أن ينقذ السلطة المتهالكة من الانهيار التام.
وثانياً: مراجعة الهدف الوطني الفلسطيني الجامع، ليكون ليس إنهاء الاحتلال فقط، بل وإسقاط نظام الاستعمار الكولونيالي والأبارتهايد في كل فلسطين التاريخية. ولا بد أن ترسل رسالة واضحة للحركة الصهيونية بأن الشعب الفلسطيني وقياداته لن يستسلما يوماً لنظام "دولة أبارتهايد واحدة"، ولن يقبل الفلسطينيون أبداً أن يكونوا عبيداً لنظام التمييز العنصري.
وثالثاً: التطبيق الفوري لاتفاق الجزائر، وإعطاء الفرصة للشعب الفلسطيني لاختيار قياداته بحرّية، عبر الانتخابات الديمقراطية للمجلس الوطني لمنظمة التحرير، وجزئه في الداخل (المجلس التشريعي) وللرئاسة الفلسطينية. والتوقف عن ملاحقة الفلسطينيين الذين يطالبون بحقهم الشرعي في الانتخابات الديمقراطية. وها هم الإسرائيليون قد أجروا خمسة انتخابات في أربع سنوات، وحُرم الفلسطينيون من أي انتخابات منذ 16 عاماً. ولا يمكن صدّ الرأي الشعبي الإسرائيلي المتطرّف إلا برأي شعبي فلسطيني مقاوم عبر صناديق الاقتراع، والديمقراطية في هذه الحالة ستكون أداة تمكين وتقوية للمقاومة، وفرصة لفتح الأبواب للأجيال الشابة للتقدّم نحو مواقع القيادة.
ورابعاً: وهذه أهم المهام، وضع كل الطاقات والإمكانات لدعم صمود الشعب الفلسطيني وبقائه في وطنه في وجه محاولات التهجير والتطهير العرقي.
وخامساً: البدء فوراً بحملة عالمية وعربية لعزل نظام الأبارتهايد الإسرائيلي، ولتصنيف حزب الفاشية الذي يمثله بن غفير وسموتريش حركة إرهابية، وذلك هدف قابل تماماً للتحقيق.
أكّدت نتائج الانتخابات الإسرائيلية تحوّل دولة الاحتلال من العنصرية اليمينية المتطرّفة إلى العنصرية الإجرامية، وهذا ما تجب مواجهته من دون تردّد.