أثارت عملية تسريب وثائق لجنة التحقيق في جريمة اغتيال الراحل ياسر عرفات العديد من التساؤلات حول التوقيت والأسباب والجهة المستفيدة من عملية تسريب الوثائق التي ما زالت تنشرها تِباعًا عبر تطبيق تليجرام مجموعة أطلقت على نفسها اسم "أيقونة الثورة"، في تزامُن يبدو مقصودًا مع إحياء حركة فتح الذكرى الثامنة عشرة لاغتيال عرفات وسط تكهنات بأن تطال التأثيرات السلبية لتسريب الوثائق وحدة وتماسك الحركة في المستقبل المنظور.
وبالنظر إلى توقيت نشر وثائق التحقيق نجد أنها تأتي بعد مرور اثنتي عشرة سنة على قرار تشكيل لجنة التحقيق باغتيال عرفات في أكتوبر 2010م برئاسة عضو اللجنة المركزية لحركة فتح اللواء توفيق الطيراوي، والذي أكد في بيان صحفي قبل أيام صحة الوثائق التي سُرّبت، والإفادات حول جريمة اغتيال عرفات، وهنا يثار تساؤل مهم هو أسباب عدم نشر نتائج التحقيقات طيلة السنوات الماضية، ولماذا لم يتم توجيه أي اتهامات بحق شخصيات قيادية في حركة أثيرت حولها شبهات بالتآمر على التخلص من عرفات في الأيام الأخيرة من حياته، وخاصة تلك التي كانت تجتمع في تلك الفترة داخل بناية أُطلق عليها "عمارة العار" بهدف التخطيط للتخلص من عرفات، بحسب إفادة نبيل أبو ردينة للجنة التحقيق والذي شغل منصب الناطق باسم رئاسة السلطة في عهد عرفات.
المثير في المعلومات التي احتوتها وثائق التحقيقات المسربة توجيه بعض الشهود اتهامات مباشرة لقيادات وازنة من الصف الأول لحركة فتح بالتآمر للتخلص من عرفات، وأن الراحل أبو عمار كان يعتقد بوجود "جواسيس" في مكتبه، وأن أرشيف الرئاسة الذي يحوي الأسرار الأمنية تم إحراقه قبل اغتيال عرفات بأيام معدودة، وأن بعض المتنفذين في قيادة السلطة –بحسب التسريبات- اتخذوا قرارًا بعد دفن الجثمان داخل مقر المقاطعة بطمس معالم جريمة الاغتيال، عبر إغراق القبر في إحدى الليالي المظلمة بأربعة عشر كوبًا من الباطون المسلح، بما يحول دون إمكانية استخراج وفحص الجثمان لاحقًا لأخذ عينات تشير إلى طبيعة المادة المستخدمة في تسميم عرفات!
لا شك أن تسريب وثائق لجنة التحقيق يأتي في سياق الصراعات المتصاعدة داخل حركة فتح، والتي باتت تطفو إلى العلن مع أفول نجم محمود عباس، والتنافس غير المحمود على خلافة الرجل، في ظل تمسك تيار عباس بخيار المفاوضات العقيم رغم فشله الذريع، وتحوّل مدن الضفة المحتلة إلى كانتونات محاصرة بالمستوطنات، وإثارة تساؤلات كبيرة داخل حركة فتح حول الخيارات السياسية المستقبلية للحركة في ظل تراجع شعبيتها في الشارع الفلسطيني بفعل فشل برنامجها السياسي، وتحول أجهزتها الأمنية إلى قوى ضاربة تلاحق أنصار المقاومة الفلسطينية في الضفة والقدس.
من ناحية أخرى فإن ما يثير الغرابة هو تزامن تسريب الوثائق مع إقامة حركة فتح –تيار عباس– مهرجانًا شعبيًّا في غزة لإحياء ذكرى اغتيال عرفات، فكيف لقيادة السلطة الفلسطينية التي اعتادت إحياء ذكرى اغتيال عرفات سنويًّا أن تقوم طيلة السنوات الماضية بإخفاء معلومات مهمة حول جريمة الاغتيال، ولماذا لم يتم اتخاذ أي إجراء قانوني أو تنظيمي لملاحقة المشتبه بهم في التآمر على التخلص من عرفات، رغم وجود اتهامات مباشرة من شهود العيان، ودلائل عملية على مشاركة البعض في التآمر للتخلص من عرفات.
واليوم ومع تسريب وثائق لجنة التحقيق باغتيال عرفات، ووضوح الجهات المستفيدة من تغييبه عن المشهد السياسي قسريًّا تتضح أسباب إصرار قيادة السلطة على إقامة مهرجانات شعبية سنوية للاحتفاء باغتيال عرفات، ولسان الحال أن هذه المهرجانات وسيلة لإلهاء الشعب الفلسطيني، وتشتيت انتباه الفلسطينيين عن المطالبة بالإعلان عن نتائج التحقيق، وأسماء المشاركون في قتل وتسميم عرفات.
ختامًا فإننا نخشى بأن تسريب وثائق لجنة التحقيق سيكون له ما بعده من تصاعد واحتدام الخلافات داخل حركة فتح، واتخاذ قرارات تنظيمية من أعلى الهرم الفتحاوي بإقصاء البعض عن المشهد السياسي، وربما إقالة اللواء الطيراوي هي مقدمة لقرارات أخرى ترجح كفة البعض لخلافة عباس ولجلوس على عرش السلطة بعد تغييب الرجل نفسه عن صدارة المشهد الفلسطيني الحالي.