فلسطين أون لاين

​وائل وإسراء.. حبٌّ يعيش على الأمل بين قضبان السجون

...
الخليل / غزة - هدى العف

كانت المرة الأولى التي تخرج منه تلك الكلمة بهذا الدفء، ربما كان ذلك من أثر اختزانها في السجن وفي قلبه، أو قد يكون لحرارة الشوق والأمل علاقة بالأمر.

لم تكن تراه سابقًا أو تدقق في ملامحه، وعلى الأغلب إنّ كلّ ما كانت تعرفه الفتاة عنّه هو اسمه وسنوات حكمه، خاصة بعد اعتقاله بتهمة اشتراكه في تنفيذ عمليّات فدائية في الخامس والعشرين من نيسان عام 2002م، نفّذها هو (وائل أبو شخدم-الحسيني) برفقة شقيقها معتز الهيموني، وهما من خيرة مدينة الخليل، كما هي "إسراء" صاحبة هذه القصة.

كانت "إسراء" فتاة يانعة، وكل ما تعيه هو كتبها المدرسيّة، حين اعتقل شقيقها "معتز" برفقة صديقه "وائل"، وحُكم عليهما بالسجن المؤبد 6 مرّات و20 عامًا، وعلى مدار سنوات كانت عائلتها ممنوعة من الزيارة لأسباب أمنيّة، لتكون دومًا هي التي تزوره باستمرار للاطمئنان عليه، خاصة بعدما مرضت والدتها وكبر سنّها وأصبحت مقعدة لا طاقة لها بمعاناة الزيارة والحواجز.

وعلى شباك الزيارة التي تكون في الأغلب متوافقة بين الأسيرين الهيموني والحسيني، كان يراها هو، يسترق بعض نظرات من خجل وأمنيات حُبلى بالأمل، ووراءه تجلس أكوام من الخوف وسنوات الأسر.

تشجّع وائل أخيرًا، وأعلن سرّ قلبه إلى رفيقه "معتز" ليصارحه بنيته التقدم لخطبة شقيقته "إسراء" التي كان دومًا يراها في الزيارة المتوافقة المواعيد، ومن هنا بدأت تفاصيل القصة، وبدأ معتز يعده بالأمل، وأنّه سيعرض الموضوع على الفتاة والعائلة بصورة جديّة.

- شو بتقولي إذا في عندي واحد بحبك ورايدك؟

- دخيلك أخي، الله يرضى عليك، وينه هاد اللي بيحبني؟

- هو بده إياكِ ع سنة الله ورسوله، بس في شغلة، إنه الشاب عندي جوّا.

- وين عندك يعني؟، قصدك بالسجن؟، مين هو طيب؟

- هو وائل الحسيني، ومنتظر منك الجواب، فكري منيح وبتردي أختي.

- مين وائل قصدك؟، كيف شكله؟، أي واحد؟، كيف عرفني؟

- المليان شوي وإله ذقن.

لم يعد الأمر شأنًا خاصًّا بعد هذه المحادثة، فقد تدخلت العائلة أيضًا، وكان لها موقفها، تقول إسراء: "إن الأمر لم يكن هينًا، فوائل معتقل لست مؤبدات، والتفكير في الخطبة منه مجازفة صعبة"، لكن والدتها قالت الكلمة الفصل: "بدي أعتبره كإنه ابني معتز، وبتمنى أن يضل عند الأسرى أمل للحب والارتباط والحريّة، توكلوا على الله".

الشهيد القواسمي بشّرها

كانت لله خيرة الأمر، بعدما قررت "إسراء" أداء صلاة الاستخارة لإعطاء قرارها الأخير، وحدث ما لم تتوقع أن تراه، حين شاهدت في منامها مديرة المدرسة فتحية القواسمي زوجة الشهيد عبد الله القواسمي وهي برفقة شقيقتيها "فداء وهناء"، تقول لها: "إن عبد الله يقرئك السلام، ويقول لكِ: إن ما تفعلينه هو الخير، وفيه كلّ السعادة لكِ".

كانت رسالته سلوانًا لقلبها الخائف، والتقطت منها إشارة خير بدأتها بمعنى الأسماء الموجودة والشخصيات وطبيعة الرسالة، وعلى إثرها أكدت قرارها الذي اتخذته أنّ ارتباطها بالأسير وائل هو أقلّ ما يمكن تقديمه لمن دفع عمره فداءً للوطن ودفاعًا عنه، واختارت أن تكون كما وصفت نفسها "سفيرة الأمل للأسرى"، ووصفها العامة يومها بـ"عروسة فلسطين".

لقد اتخذت قرارها أخيرًا وبكل وضوح، لكنّ ليس هناك من طريقة للرد على طلبه إلا الانتظار حتى موعد الزيارة المقبلة، وذهابها إلى زيارة شقيقها "معتز" وإبلاغه برضاها الارتباط بـ"وائل".

ذهبت إسراء إلى الزيارة وهي تحمل معها إجابة الرضا، لكن ليس من طريقة إلا إبلاغ شقيقها، ووقت الزيارة أخذت تسترق النظر إليه من بعيد خلسة دون أن يلحظها، وهو مع عائلته التي لم تكن قد تعرفت إليهم بعد، وخجلت من التقدم للسلام عليهم أو الحديث إليهم أو إليه، وهذا ما دفع "وائل" إلى الاعتقاد بأنّها رفضت عرضه بالارتباط بها.

ما إن انتهت الزيارة ودقّ جرس العودة، حتى وقع "وائل" على الأرض مغمىً عليه، وهو الذي كان يتمنى أن تتقدم خطوة أو تنظر إليه ليعرف ملامح جوابها، إدارة سجن الاحتلال حاولت التعرف إلى ما حصل معه في أثناء الزيارة وسبب الإغماء، واعتقدوا أنّه وقع مغشيًّا عليه لأنه يرى أخته للمرة الأولى بعد غياب سنوات، لكن السبب الرئيس كان هو اعتقاده برفضها.

بعد دقائق أبلغ "معتز" رفيقه وائل بأن شقيقته قد وافقت على خطبته: "البنت موافقة يا عريس"، كانت كلمات كافية لترد إليه الروح مرةً أخرى، وتعيد الحياة إلى قلبه الغائب، وكانت لها "طلبة مميزة"، فلقد وكّل أحد الأسرى بالتقدم لطلبها رسميًّا أمام الأسرى من أخيها، والاتفاق على التفاصيل، وكانت إعلانًا جديدًا للأمل بينهم، ما دفع أسرى آخرين إلى التقدم لخطبة فتيات يسكن القلب بالرغم من البعد، على أمل أن الحرية قريب.

في الزيارة الثانية التقت العيون والقلوب، سلّمت على أهله كنةً لعائلة الحسيني، وبدأ التواصل بينهما عبر الهاتف من سجن "ريمون"، حتى إن شقيقها طلب منها الذهاب مع عائلته وزيارته، ثم الحديث بشكلٍ منفصل لينفردا بأحاديث لا يسمعها غيرهما.

علمت السجّانة بالأمر، وسألتها: "قال صحيح إنت انخطبتي لوائل؟!، مجنونة إنت؟!، بتعرفيش إنّه محكوم مؤبدات؟، كيف رضيتي ترتبطي فيه؟!"، الإجابة كانت واثقة وكافية للرد على كل الأسئلة واتهامات الجنون، لقد قالتها للمرة الألف: "لا مش مجنونة، لأنّه راح يطلع وعن قريب، إن شاء الله"، وما كان على صاحبة الأسئلة الملعونة إلا أن فتحت ثغرها شاهقة ومستغربة.

في الحادي عشر من نوفمبر 2015م أصبحت "إسراء" معقودة القلب بوائلها، وأصبحت هي القلب كلّه لديه، وبدأت تمر الأيام والشهور ويزداد تعلق كلّ منهما بالآخر، لقد انهزمت الحواجز والقيود والمسافات أمام قلبين أسسا قواعد الحب بينهما على الثقة واليقين والأمل الكبير الذي سيجمعها ذات آن، ولو طال الغياب، بدأت التواريخ تكتسب معناها وقيمتها والأصوات لها وقعها وموسيقاها.

حتى التواريخ أزهرت

لقد اختلف التقويم إذن، وأصبحت أيام السنة تعني بالضرورة موعد الزيارة، وموعد الاتصال، وتاريخ ميلاده، وأمور كثيرة متعلقة به تصنع تاريخًا خاصًّا بينهما، طريقة حسابية لم تتبعها "إسراء" وهي مُعلمة أصلًا، لأنّ حسابات القلب لا علاقة لها بفيثاغورس ولا نظرياته، ولكل تاريخِ زهرة تتفتح في القلب.

في الأول من آب ذهبت إسراء إلى زيارة شقيقها ورؤية خطيبها بالتوازي، لكنّهم أبلغوها أنها ممنوعة هذه المرة لأسبابٍ أمنية، وهو ما كان خبرًا سيئًا أفاض دموعها، أخذتها شقيقتها المتزوجة للجلوس في بيتها حتى ترتاح، وفي مكانٍ آخر يصنع "وائل" مفاجأته.

بيت شقيقتها كان قريبًا من بيتهم في المنطقة، وبعد دقائق جاء صهرها ليسأل زوجته: "في صوت طبل وزمر وأغاني ببيت أهلك، شو صاير؟"، فما كان منهما إلا الاستغراب، فلا شيء يدعو للاحتفال وهما خارج البيت ولم يخبرهما أحد بشيء.

في البيت كان حفلة "DJ" ساطعة وهدايا ذكرى الميلاد والكعكة بانتظارها، وأهل وائل جميعهم في بيتها بالتنسيق مع أهلها لإعداد مفاجأة ذكرى ميلادها التي كان حاضرًا فيها رغم غيابه، تقول إسراء: "لقد استطاع أن يجعل صوت ضحكتي أعلى من صوت الأغاني حينها، وكان حاضرًا عن بعد".

لم تقتصر مفاجأته في ذكرى ميلادها على مرة واحدة، كان يتصل ويهنئنها بالأعياد والمناسبات، وفي ذات ذكرى ميلاد لها كانت المفاجأة غير متوقعة أيضًا، لقد أعد وائل لها "ديوانًا شعريًّا اسمه "أميرة الصباح"، "كانت الهدية الأجمل" تقول إسراء.

أما عن هداياها هي فلقد أرسلت له مرارًا وردًا مجففًا داخل الملابس وأغراضًا يمكن تهريبها خلال زيارات أهالي الأسرى، كانت تعطّر له كلّ شيء ترسله، وكان هو كلّما استطاع إرسال الرسائل هرّبها مع أسرى سيخرجون، ولا يوفّر فرصة للوصول إليها، أما هي فلا تتمكن من إرسال الرسائل لأن بريد الأسرى مغلق، فتقوم بالكتابة على الملابس نفسها، المهم أن تقول له شيئًا، ولو كلمة بسيطة.

يوم طار فرحًا

في اليوم الأول لخطبتهما اعترف وائل بحبه لها، وبخوفه من ألا تبقى بجواره، وبأمله الكبير أن تصبح زوجته وحبيبته الأولى، لقد كانت كلماته سحرية فائقة الصدق، طاهرة ونقيّة عفوية وجميلة.

قررت بعد شهورٍ أن تقولها جهرًا، أن تعترف بنجاحه في أن أسر قلبها برغم جدران الزنزانة الفاصلة بينهما والحواجز، ليهزم الاحتلال مجددًا.

في الثامن والعشرين من حزيران 2016م كان إعلان ميثاق الحب المتبادل، لتعترف لــ"وائلها" بحقيقة قلبها بعد ثمانية شهور من ارتباطهما، ولم يمرّ بشكل عادي على "وائل".

تتذكر حينها ما عقّب به شقيقها معتز لها بالقول: "شو صاير لوائل اليوم يختي؟!، لما حكيتو بطّل مركز، جاي طاير من الفرح وملخبط كتير، وبيضحك وبيبكي، وما بيحكي وسرحان"، "حتى إن شباب الغرفة قالوا له: "الطبخ اليوم عليك شو بدّك تطعمينا؟"، ليرد بالقول: "اليوم إنسوني، لو بدكم تركنوا عليّ مش رح تاكلوا"، كانت حالته غير طبيعية بالمرّة، لقد كان هائمًا كما لم يكنّ من قبل، كان طائرًا بالفعل" قال معتز لإسراء.

تحديات قاهرة

وائل كان بطلًا أيضًا، زاده القلب رفعة، ورفعه الأمل منزلة، وأغناه الحب عظمة، فمن استطاع أن يقدّم نفسه فداءً لوطنٍ عظيم سيكون كذلك لامرأة رائعة، "لقد كانا متفقين على هذا مبدأ حياة".

خاضَ وائل برفقة عدد من الأسرى معركة الأمعاء الخاوية في نيسان (أبريل) الماضي، ضمن معركة الحرية والكرامة، احتجاجًا على معاملة الاحتلال لهم، وعزل الأسرى، وصعوبة ظروف اعتقالهم، وقلة الزيارات العائلية لهم.

أما "إسراء" فقلبها كاد ينفطر على خطيبها وشقيقها المضربين عن الطعام آنذاك، تتابع الأخبار لحظة بلحظة، وهي ممنوعة من زيارتهما أو إجراء مكالمات معهما، جراء عزلهما وتفريقهما، تقول: "كنت أتخيل طوال الوقت أنّي أسمع صوته، أشعره يناديني، وأحيانًا أخرى كنت أشعر به يعاتبني".

الاحتلال لم ينفكَّ ينغص عليهما فرحتهما كلما زرعها أحدهم في قلبيهما، فحينما علمت إدارة السجون بخطبته استنكروا عليه ذلك، فكيف لأسير محكوم عليه بمؤبدات أن يفكر في الارتباط؟!، ومن أين يأتي بهذه الثقة؟!، لقد نقلوه إلى سجن آخر بعيدًا عن معتز، وحرموه زيارة خطيبته، وكان هذا عذابًا إضافيًّا.

القصة الجميلة هذه لم تسلم من تدخلات الناس وإحباط كلماتهم، إحداها حبًّا والشق الآخر إحباطًا ويأسًا، فالكثير كان يتكرر على مسامع إسراء: "شو بدك بوجع هالقلب؟!، لمتى بدكّ تستني؟!"، حتى إن كلمات والدتها المقعدة كانت تكسر قلبها حبًّا حين تقول: "إيمتا بدنا نفرح فيكي؟، نفسي أشوفك عروسة قبل ما أموت"، لكنها مع كل ذلك بقيت صامدة قوية وضاحكة كعادتها.

وبالحديث عن عاداتٍ يمارسونها معًا رغم المسافات، تحدثت إسراء عن اتفاقهما على موعدٍ معين لسماع المذياع، إضافة إلى مشاركاتها لإيصال صوتها إليه، وأنشأت له ولشقيقها صفحة شخصية على (فيس بوك) تغذيهما بصورهما والحديث عنهما.

ومنذ نحو عام ونصف إسراء محرومة رؤيته، لكنّه في كلّ مرة يبقى يجدد العهد ليكونا "أم وعد وأبا وعد"، ودموعه خير شاهد ودليل.

وعلى سيرة الدموع تتذكر إسراء المرة الأولى التي بكى فيها وائل وتمزق قلبها على إثرها، كان ذلك عندما طلبها أحد شباب الخليل للزواج، فقال لها: "افعلي المناسب وشوفي حياتك لو بدّك"، نطقها بحرقة وبدموع فيّاضة، أما قلبها أعلنها له بكل صراحة: "ما ببدلك ولا برجال الدنيا".