فلسطين أون لاين

احتضن طفله الرضيع بعد 85 يومًا من ولادته

تقرير "أحمدُ الله أني خرجتُ حيًّا".. المعتقل "هريش" يروي تفاصيل 100 يوم من التعذيب

...
رام الله-غزة/ يحيى اليعقوبي:

احتضن مولوده "كرم" وغابَ في عناق طويل مليء بالشوق لهذه اللحظة التي تأخرت 85 يومًا منذ ولادة الرضيع، ينهش الألم جسده المنهك بسبب التعذيب والإضراب عن الطعام، فلم يستطع حمل الطفل الذي لا يتجاوز وزنه كيلوغرامات لشدة ما يحمله من أوجاع في كل جزء من جسده، لأول مرة يشتم رائحته، ويسمع صوته بعيدًا عن القضبان والقيود، تشرق على وجهه ابتسامة ممزوجة بالوجع غابت عنه منذ اعتقاله في سجن السلطة بأريحا لخمسة أشهر.

هكذا كان المشهد الأول بين المعتقل السياسي المفرج عنه أحمد هريش وطفله الرضيع الذي كان يتضامن مع والده برفقة والدته في الوقفات الاحتجاجية منذ الأسبوع الأول لولادته عندما أبصر الحياة، وعُدَّ أصغر متضامن في العالم.

بعد 156 يومًا أمضاها في سجن السلطة الذي دخله على قدميه، أضرب خلالها لمدة 47 يومًا، خرج أحمد هريش يوم الأربعاء، قعيدا على سرير المشفى، لا يقوى على الحركة يعاني فقدانًا بالذاكرة من أثر التعذيب والضرب والإضراب، لديه تشنجات بيده وقدمه اليسرى من أثر شبح "الموزة" أشد أساليب التعذيب التي استخدمت معه.

واعتقلت أجهزة أمن السلطة "هريش" على ما يعرف بقضية منجرة بيتونيا.

رحلة عذاب

كان صوته مثقلاً بألم التعذيب ووجع إضراب ممتد، وهو يفتح لصحيفة "فلسطين" صفحات "رحلة عذاب" استمرت خمسة أشهر وعشرة أيام، يقول: "الحمد لله أني خرجت على قيد الحياة، بعد رحلة عذاب جسدي ونفسي وفترة صعبة مرت، كل يوم وكل لحظة لم تخلُ من التعذيب الذي لا يستوعبه العقل، بعد جريمة التحقيق وهذه العصابة التي واجهتها، كنت أعتقد أني عند جهاز فلسطيني إلا أنه تبين أنه لا يمثل فلسطين بشيء"، بحسب تعبيره.

كما جسده المنهك الممدد على السرير الطبي بالمشفى للتعافي، أيضًا يتحامل على صوته، ليخرج الكلمات ويروي ما جرى، تذكّر بعضها وغلبه النسيان من أثر الإضراب في بعضها الآخر، فلم تسعفه ذاكرته في استحضار كل المشاهد، وإن كانت لها ندباتٍ لن تمحوها الأيام، سيعاود استحضارها بأدق تفاصيلها بعدما يستعيد عافيته.

في سجن المخابرات، وضع أحمد بزنزانة يطلق عليها اسم "خزانة" لا تزيد مساحتها على 70 سم مربع، لا تسمح للجلوس أو للنوم إلا بوضعية القرفصاء بثني الركبتين للأسفل في ليلته الأولى.

يتوقف عند أول يومٍ له بـ"مسلخ أريحا" أصرَّ على هذا الوصف، فهو يراه أدق تعبير لطبيعة ذلك المكان: "عندما وصلتُ كنتُ معصوب العينين، مقيد اليدين للخلف، استقبلت بالضرب بالأيدي على وجهي بشكلٍ متتالٍ متتابع".

نال "هريش" نصيب الأسد من التعذيب وهو أكثر ستة معتقلين سياسيين تعرض للتعذيب، حتى إن المعتقلين الآخرين، أفادوا لصحيفة فلسطين في مقابلات أخرى، أنهم كانوا يسمعون صراخه من الألم وهو يعذب في زنزانته، وهو الوحيد بينهم الذي استمر تعذيبه لأكثر من 100 يوم خلال مدة اعتقاله البالغة خمسة أشهر.

تترد في ذاكرته تلك الأصوات التي كانت تنهال على جسده "بلا هوادة ولا رحمة"، يعرض بعضًا منها وفي صوته المنهك غصة قهر: "ضربتُ بالعصي على ظهر أصابع يدي، حتى تورمت وانتفخت، شبحت وعلقت لساعات وأيام وانحرمت من النوم، شبحتُ بربط يدي ورفعها للأعلى بالكاد كانت أصابعي تلامس الأرض، فتسببت لي بألم كبير بالظهر".

بعد 25 يومًا من التعذيب لم يعد جسده قادرا على تحمل الضرب، يستذكر بالقول: "سقطتُ على الأرض، ولم أعد أستطيع الوقوف حتى لو أردت تنفيذ تعليماتهم، لدرجة أن اثنين منهم أمسكوني، وبدآ يسيران بي لتحريك الدم من شدة عدم قدرتي على الحركة، ومن أساليب التعذيب الضرب بالطوب، وعلى القدمين ثم الطلب مني القيام بحركات الدبكة رغم أني منهك".

تعذيب متواصل

لم تزد مساحة الزنزانة في سجن أريحا على 70 سم عرض، بطول 180 سم، تخلو من التهوية إلا من أسفل بابها الخشبي المرفوع عن الأرض 5 سنتيمترات، إضافة لحرارة الأجواء التي تبلغ 50 درجة مئوية، يصف الحياة فيها بأنها "قاسية"، ويقول: "كنت أستيقظ مبتلاً من العرق، كل شيء في الزنزانة سيئ، لدرجة أنهم كانوا يحققون معي يوم الجمعة، لم أعرف اتجاه القبلة، فكل حارس أعطاني اتجاها مختلفا عن الآخر".

"كنت من شدة التعذيب، أضع يدي على الجهة اليسرى وأنام، وأثني قدمي كذلك، وعندما أريد تحريكهم أتألم بشدة لدرجة أن المعتقلين الآخرين يسمعون صوت تألمي"، رغم حدة الوصف والغضب الذي انتابه إلا أن الكلمات قالها بصوتٍ متعب خافت، لم يستطع رفع نبرته من شدة الوجع.

لم تكن هناك راحة في الزنزانة، خلال أول 33 يومًا من الاعتقال، إلا عندما كان يزوره محامون من مؤسسات حقوق الإنسان، يردف: "صرت أعرف يوم مجيء مؤسسات حقوق الإنسان، أنه سيتم تخفيف التعذيب قبل قدومهم بساعتين وكذلك بعد مغادرتهم من عندي".

ورغم أن هريش أضرب في أيامه الأولى من الاعتقال، إلا أنه فك إضرابه حتى يقاوم الضرب، لكن كان الطعام "لا يكفي قطة" على حد وصفه، مستذكرًا أصعب أيام التعذيب: "في إحدى المرات، استخدموا معي أساليب عسكرية متتالية ومتنوعة، وأمام صبري وتحملي كان المحققون يقولون (صبرًا آل ياسر) يقيسون مدة تحملي".

هنا، لا تسع الفرحة قلب زوجته وهي تتحدث لصحيفة "فلسطين" عن لحظة الإفراج، قائلة: "هي لحظة جميلة لا توافيها حقها أي كلمات، كانت غير متوقعة، لأنه بلغت فينا مرحلة من الألم، لدرجة أنني لم أتخيل متى تأتي هذه اللحظة. بداية انتصرنا على الظلم واجتمعنا كعائلة معه، واستطاع رؤية ابنه كرم بدون سجانين وسجن وقيود".

عانت زوجته كثيرًا في المشاركة بالوقفات الاحتجاجية في أشهر حملها الأخيرة وحتى بعد ولادة طفلهما، يرافق الأسى صوتها: "للأسف؛ كانت العائلة تعود أدراجها خائبة، لأننا كنا نخاطب أناسا قلوبهم من حجارة، خمسة أشهر من الوقفات والمؤتمرات كنا نطالب فيها دون أي نتيجة، خاصة أن وضع زوجي تدهور، لكنها لم تحرك تلك القلوب الميتة".

تصف زوجته المقهورة، ما جرى معه "ظلم" لأنه من حق أي إنسان أن ينتمي سياسيا للفصيل الذي يريد، وهذا الانتماء لا يشكل مسوغا يستدعي الاعتقال، بل إن الأمر تجاوز الظلم لأن الاعتقال كان مؤلما بكل تفاصيله، بداية من تعذيبه الجسدي، وحرمانه من أن يعيش كأي أب لحظات ولادة طفله.

المصدر / فلسطين أون لاين