"ذاب الثلج وظَهرَ المرج"، وأصبحت نتائج الانتخابات معلومة للجميع، وها هو بنيامين نتنياهو على طريق العودة رئيساً قديماً جديداً لمجلس الوزراء للمرة الثالثة، وبعد 18 شهراً بقليل على خروجه من سدة الحكم، وقد فاز تكتله بنحو 65 مقعداً من أصل 120 مجموع مقاعد الكنيست.
وإذا تتبعنا الخارطة السياسية لكيان المستوطنين في فلسطين المحتلة لوجدنا أن كل انتخابات تجري يَنحدِرُ فيها الحال في البلاد نحو اليمين، وسيستمر هذا الوضع في الدورات الانتخابية القادمة.
وَيُقِرُّ كثيرون بأن الإنجاز الساحق الذي حققه بيبي نتنياهو رغم كل ما يسمه من فساد وسوء ائتمان بفوز حزبه الليكود بـــ 32 مقعداً وهي الكتلة الأكبر في الكنيست، إلّا أن الأوساط السياسية ترى أن النصر الحقيقي في الانتخابات الخامسة في أقل من أربعة أعوام كان للأحزاب اليمينية المتطرفة.
وتثير عودة بنيامين نتنياهو مشاعر القلق لدى أصدقائه وأعدائه على حد سواء، ففي علاقته مع موسكو وهو الذي عُرِفَ بعلاقاته الوثيقة بالرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حتى أنه شارك في مسيرة "فوج الخالدين" في موسكو خلال احتفالات أعياد يوم النصر عام 2018، إلّا أن ذلك لن يُغَيِّرُ من موقف القيادة الروسية تجاه الكيان لجهة التأييد العلني الذي يبديه قادة حكومة الوحدة المنصرفة بينيت/لابيد، وأن نتنياهو لن يتراجع كذلك بشأن الحرب الروسية الأوكرانية وفي اتجاهين –كما تقول "تل أبيب"–، وذلك لأن روسيا استوردت عديد الطائرات المُسَيَّرة في إيران وهي التي تستخدمها الآن ضد كييف والخشية من التقارب المتزايد بين الدولتين، وروسيا تأخذ على الكيان دعمه لأوكرانيا عسكرياً وديبلوماسياً، واستمرار الإجراءات الروسية القانونية في قضية الوكالة اليهودية "سخنوت" التي تعمل على مساعدة اليهود الروس بالهجرة إلى "تل أبيب".
وعلى جبهة الشمال فإن تحالفات نتنياهو مع شركائه في أقصى اليمين، ومواقفهِ من اتفاقية ترسيم الحدود البحرية مع لبنان ستضعه في مواقف لن تمكنه من السير بسهولة في حقول الألغام التي تنتظره.
لقد وصف الاتفاق المذكور بــــ "المخزي" وأنه رضوخ لمطالب "حزب الله"، وأنه سيسمح لإيران بالتنقيب عن الغاز قبالة سواحل المستوطنة، بل وأضاف نتنياهو على موقع "تويتر": "هذا ليس اتفاقاً تاريخياً، بل استسلام تاريخي"! كما أنه نبه إلى أنه سيتعامل مع اتفاق الترسيم كما تعامل مع أوسلو، ومعلوم أن دولة العدو ولبنان خاضا مفاوضات ماراثونية غير مباشرة استمرت عامين بوساطة الأمم المتحدة والمبعوث الأمريكي هوكشتاين، حول ترسيم الحدود البحرية في منطقة غنية بالنفط والغاز الطبيعي في البحر المتوسط تبلغ مساحتها 860 كم مربعاً.
كما كان واضحاً أن نتنياهو يدرك جيداً أن هناك رغم كل التفاهمات والاتفاقيات الاستراتيجية وجود تحديات لا يُستهان بها مع واشنطن.
فقد كانت سياسة نتنياهو كرئيس للوزراء تستند إلى تنسيق غير مسبوق بين اليمين الحاكم الذي يُمثله، وقوى اليمين في الولايات المتحدة في فترة ولاية الرئيس الأسبق باراك أوباما، حتى إن مواقفه كانت كثيراً ما تتعارض مع أولويات الرئيس الأمريكي، وزاد هذا التنسيق متانة مع إدارة الرئيس السابق دونالد ترامب والذي كان من أبرز ثماره ما تم التَوَصّلُ إليه من تلك الاتفاقات التي أسموها "أبراهام"، وهي العلنية للتطبيع مع الإمارات والبحرين والمغرب والسودان، فضلاً عن تلك غير المعلنة مع دول عربية أخرى.
التآكل الذي بدأ يَعْصِفُ بالإجماع المطلق لــــ "تل أبيب"، لا يتعلق بخصوصية العلاقة ولا باستمرار الدعم ولا بالدور الوظيفي للعدو وكقاعدة للمصالح الغربية في قلب المنطقة العربية، ولكننا وسط جدل حزبي بين تيارين، أحدهما يدعم الكيان أصاب أم أخطأ، وهذا كان ديدن الحزبين قبل عقد من الزمان تقريباً، ونهج "الحب القاسي" الذي يرى بضرورة رفض بعض سياسات حكومة الاحتلال والضغط عليها لوقف هذه السياسات، تلك التي تُضِرُّ بمصالح الولايات المتحدة أو المغامرات التي تُحرج واشنطن كطلب شن عدوان على طهران مثلاً، خاصة وأن الأجيال ما بعد الثمانينيات من القرن الماضي وهي الكتلة التصويتية الأكبر تميل إلى أن تكون الإدارة الأمريكية أكثر انتقاداً للمستوطنة.
كما يعيش التكتل اليميني المتطرف المنتصر في انتخابات الكنيست الــ 25 هاجس الجبهة الإيرانية وكيفية إزالة عقبات كأداء كبرى لِنَسج تحالفات مع الغرب الأوروبي / الأمريكي لشن عدوان شامل على الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وهو الذي فشل فيه الكيان حتى اللحظة.
رئيس الموساد الأسبق شبطاي شبيط، يقول إنهُ واعتماداً على معلومات استخباراتية موثوقة في أن طهران ستنتج قنبلة نووية خلال بضعة أشهر، ويشير إلى حيرته في طبيعة القرار الذي ستتخذه إيران إن وَقَعَ ذلك، وهل ستكون قراراتها براغماتية أم نابعة من عقلية الخلاص الديني؟
أما على الجبهة الصينية، فرغم الزخم الإيجابي الذي تشهده علاقات العدو مع بكين خلال السنوات الأخيرة ودرجة الاهتمام بالتعاون في مشاريع البنية التحتية لكن التوترات الأمريكية الصينية المحتدمة الراهنة تُلقي بظلالها على العلاقات بين "تل أبيب" وبكين في التضييق على الاستثمارات الصينية في البلاد، كما أن هناك تذمراً واسعاً بدأ يستثير عددًا من ضباط جيش العدو وقيادات في جهاز الأمن العام منشأة القلق من اختراق الصين للاقتصاد والسيطرة عليه ومن احتمال استخدام الصين للتكنولوجيا الفائقة في أنشطة تجسس، إلى جانب تأثير تلك العلاقات الثنائية على إثارة مخاوف واشنطن الإستراتيجية الأمنية والعسكرية والاقتصادية.
وفي مستقبل العلاقة مع القارة الأوروبية يقول الدكتور هيثم مزاحم: "لا شك أن الدول الأوروبية الكبرى تتحمل مسؤولية تاريخية وأخلاقية وقانونية عن نشوء القضية الفلسطينية وقيام الكيان الاستيطاني الإحلالي، بشكل مخالف لكلّ مبادئ القانون الدولي، بسبب وعد بلفور وسياسات الانتداب بداية، وصولاً إلى استمرار الدعم الأوروبي الاستثنائي لهذا الكيان: سياسياً واقتصادياً وعسكرياً".
مع التأكيد أنه ورغم هذا الارتباط إلا أن خلافات وتباينات لا بدّ أن توجد أحياناً بين الكيان وبعض الدول الأوروبية، أو مع الاتحاد الأوروبي عموماً.
ولكن السياسات المزمع اتباعها من هذه الحكومة اليمينية الفاشية المتطرفة، تلك التي تم الإعلان عنها بوضوح إن كان عَبْر رئيسها المتوقع بنيامين نتنياهو أو من وزرائها وعلى رأسهم كل من سموتريتش وابن غفير التي ستزيد من الفجوة بين الكيان وبين عدد من الدول الأوروبية المرتبطة بنوايا ضم الضفة الفلسطينية المحتلة، وتوسيع المستوطنات المتسارع واستمرار تغيير الطابع الجغرافي والديموغرافي للقدس، وبضائع المستوطنات وعمليات القتل الميداني اليومية في غير موقع على طول الضفة وعرضها.
أزمات تترى ستواجه هذا الائتلاف على المستوى الإقليمي والدولي والتي ستترك آثارها العميقة ليس فقط على استقرار الحكومة ودورها وإنما على تداعي دولة العدو ومقدمات بدء العد التنازلي الوجودي وهي ماثلة للعيان.