كثيرة هي التحليلات والمقالات التي تحذر من استحواذ اليمين المتطرف بقيادة نتنياهو على مقاليد السلطة في (إسرائيل)، ومردّ هذه التخوفات نابعٌ من الشعارات المتطرفة التي يرفعها ويدعو لها قادة التحالف اليميني الذي فاز في انتخابات الكنيست الصهيوني الأخيرة، تلك الشعارات التي تترد على لسان ابن غفير وسموتريتش، الداعية إلى ضم الضفة الغربية وطرد العرب وإقامة الهيكل.
تزداد مخاوف المحللين والمتابعين بعد تواتر الأنباء عن مطالبات ابن غفير وسموتريتش بوزارة الأمن الداخلي للأول والجيش للأخير، وهو الأمر الذي يُستَشَف من خلاله رغبة ابن غفير في منع الشرطة الصهيونية من كبح جماح المستوطنين في اقتحام المسجد الأقصى والصلاة فيه، بل وكل ما من شأنه أن يحقق هدفهم في إقامة الهيكل، مرورًا بتقاسم المسجد الأقصى مع المسلمين زمانيًّا ومكانيًّا، وكذلك رغبة سموتريتش في إطلاق يد الجيش الصهيوني في إعادة احتلال الضفة الغربية تمهيدًا لضمها وتكثيف الاعتداءات على غزة، لكن يبدو أن تلك التحليلات والتصورات تعتمد أساسًا على ما تُردده ألسنة قادة المستوطنين الصهاينة، وتسقط أو تقلل من شأن عوامل القوة التي يمتلكها الشعب الفلسطيني، التي -حسبما أظن- ستحيل شعارات اليمين إلى مجرد أوهام تتبدد بقوة اليقين الفلسطيني بالحق التاريخي والأزلي للشعب الفلسطيني في أرضه ومقدساته، صخب اليمين الصهيوني -حسبما أزعم- هو في جزء كبير منه دغدغة للمشاعر الصهيونية لدى المجتمع الصهيوني الذي ينحو نحو التطرف خلال الخمسة عشر عامًا الأخيرة، وبالتالي الحصول على أكبر كم من الأصوات، وهو ما حدث فعلًا خلال الانتخابات الأخيرة بحصول تحالف ابن غفير وسموترتش على خمسة عشر مقعدًا داخل الكنيست.
الأمر الآخر أن اليمين الصهيوني ورغم كل الجدل الذي يثيره من خلال بعض الاستعراضات مثل الاقتحامات والتظاهرات والاعتداءات التي تغض عنها الشرطة الصهيونية العين بدافع العنصرية حينًا والأوامر المباشرة من القادة الصهاينة رغبة في التساوق مع الحالة اليمينية أحيانًا أخرى، فهو محكوم بمعادلة دولية تفرض قواعدها وشروطها على كلا الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، وإن كان هناك محاباة دائمة للجانب الإسرائيلي إلا أنه يبقى محكومًا بمعادلة التوازن العربية الإسرائيلية في المنطقة التي تحافظ عليها الإدارة الأمريكية منذ عام 67 تقريبًا.
الأمر الثالث الذي يجب ألّا نسقطه من الحسبان؛ هو صمود الشعب الفلسطيني وتصديه للاحتلال، هذا الصمود والتصدي الذي واجه الاستيطان الصهيوني منذ وعد بلفور 1917 حتى هذه اللحظة منع بوضوح إكمال تنفيذ المخططات الصهيونية المدعومة غربيًا في فلسطين، ولولا هذا الصمود وهذا التصدي لتحولت فلسطين منذ الانتداب البريطاني إلى وطن قومي خالص لليهود.
الأمر الرابع الذي لا بد أن يُستحضَر في هذه الحالة، هو أن اليمين الصهيوني رغم تشدده الظاهر فإنه كان دائمًا الغريق الذي يتخذ الخطوات الحاسمة باتجاه التنازل والميل للتسوية مع العرب والفلسطينيين، "فمناحيم بيغن" هو الذي عقد اتفاقية السلام مع السادات وتخلى بموجبها عن كامل سيناء التي احتلها الجيش الصهيوني في عام 67، وشارون كان هو الزعيم الصهيوني الذي تجرأ على الانسحاب من غزة، وبدأ الانسحاب من الضفة لولا أنَّ القدر لم يمهله لتنفيذ خطة الانسحاب، تلك الظاهرة التي تدل على أن تنازل الصقور أسهل بكثير من تنازل الحمائم رغم شراسة الصقور الظاهرة ووداعة الحمائم المدعاة.
أمر آخر لا بد من ذكره في هذا السياق، وهو أن المشروع الصهيوني في فلسطين، وهو في أوج قوته وفي أكثر مراحل التاريخ المواتية للحركة الصهيونية، لم يستطِع أن يحقق كامل أهداف الحركة الصهيونية، وتباطأت عوامل الدافعية لديه إلى أن استقرت عند الحال القائمة الآن بوجود نحو مليون وسبعمئة ألف عربي داخل فلسطين بحدود 1948، ونحو خمسة ملايين وثلاثمئة وستون ألف فلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة حسب مركز الإحصاء الفلسطيني، وهو عدد يتجاوز عدد اليهود المقيمين في فلسطين التاريخية، هذه المعادلة الديموغرافية لا يمكن بحال من الأحوال وبعد مرور ما يزيد على مئة عام على المشروع الصهيوني أن تغيرها أي قوة على وجه الأرض، ناهيك بأن الشعب الفلسطيني قد امتلك من وسائل القوة العلمية والمادية والعسكرية ما لم يكن يمتلكه قبل مئة عام، وهو ما مكّن المشروع الصهيوني من تحقيق أهدافه جزئيًّا.
اليوم ونحن في عام 2022 يحاول العدو الصهيوني تثبيت جذوره المنبتة في أرض فلسطين من خلال استخدام بعض العرب في سياق عملية تطبيع غير قابلة للحياة، وهو أمر أكثر ضعفًا وهوانًا رغم مظاهر الغطرسة والقوة التي تخفي صعفًا بنيويًا لم يعد إخفاؤه سهلًا، وما اتجاه المجتمع الصهيوني نحو اليمينية المتطرفة إلا استشعار لهذا الضعف البنيوي الذي يحاول المجتمع الصهيوني تعويضه بمزيد من التطرف، ومثله كمثل الخائف المرتعد الذي يصرخ بقوة وانفعال ليعطي نفسه الثقة.