كان يفترض أن يزفه أصدقاؤه إلى عروسه فحُمل على الأكتاف شهيدًا في عرس مهيب.. سكنت الجنازة إلا من "فتنت روحي يا شهيد" التي صدحت بها مكبرات الصوت.
افتتح فاروق جميل سلامة (28 عامًا) بطاقة الدعوة إلى زفافه بكلمات تفيض فرحًا "صفت لنا الأيام وابتسمت وحقق الله لنا أمانينا"، دعا كل من عرفه لمشاركته حفل مأدبة العشاء مساء الخامس من نوفمبر 2022، في منزله بمخيم جنين، فحضر الجميع إلا هو.
اقرأ أيضاً: ماذا قالت خطيبة الشـهيد فاروق سلامة؟
لم يتبقَّ من طقوس الفرح إلا صورة معلقة على مدخل البيت، وبدلة زفاف، وبزة عسكرية شاهدة على رحلة طويلة من المقاومة ومقارعة الاحتلال في شوارع وحارات وأزقة مخيم جنين، وبندقية، ولثام فأصبحت المأدبة "على روح الشهيد".
حضرته أمه إلى المشفى ترتدي عباءة سوداء بدلاً من الثوب الفلسطيني المطرز، تسأل عنه وقد بدا عليها الصدمة وهي تردد: "وين العريس.. الحور العين، يا فاروق"، يحتضنها ابنها فادي مواسيًا على حين تطلب هي منه عدم البكاء.
ترفض فكرة رحيله وكأنها تعيش في حلم. تخاطب روحه بعينين امتلأتا دمعًا ووجه سرق الحزن نضارته: "فاروق راجع، غدًا يوم حنتك، الحلويات عبأتها وكتبت عليها الفاروق، الحذاء نظفته يا حبيبي".
حناء بالدم
يتحدث فادي عن تفاصيل الليلة التي سبقت استشهاده فاروق، أحد أبطال كتيبة جنين: "سهرنا في منزل شقيقي الآخر، كان فرحًا سعيدًا بحفل زفافه، كنا نمازحه أنها آخر ليلة له في العزوبية، فجأة اشترى حلوى الكلاج، ثم جاء وناولني قطعة وقال لي: هاي تحلاية قبل عرسي".
لم يغب تفاصيل يوم الاستشهاد عن حديث شقيقه، يمتزج صوته بأصوات المعزين لحظة اتصالنا: "انقسمنا لقسمين، هو وأصدقاؤه ذهبوا للمخيم لذبح الذبائح لكون احتمال دخول الاحتلال المخيم صعبًا، وذهبت لمدينة جنين لشراء البهارات وبعض أغراض المائدة، وهناك تلقيت اتصالًا من أحدهم يخبرني أن جيش الاحتلال يحاصر الملحمة، ثم اتصل بي، يخبرني بإصابة أخي، وأنها حرجة".
يعيش المشهد مرة أخرى: "تركت كل شيء، ذهبت للمشفى. كانت هناك محاولة لإنعاشه، تعلقت ببصيص أملٍ أن يعيش، لكنه اختار أن يزف إلى الحور العين (...) اتفقت أن أنقش الحناء على يديه بعد مأدبة العشاء لكني تحنيت بدمه".
يضيف عن مراسم الفرح التي تحضرت لها العائلة: "وزعنا أكثر من 4 آلاف بطاقة دعوة، جهزنا كل شيء بأدق التفاصيل: السكاكر، الشكولاتة، الحلوى، اشتريت عباءات لأطفالي وطبعت صورته عليها".
ويكمل: "أردنا أن نقيم وليمة عن أرواح شهداء فلسطين، لكنهم تعمدوا اغتياله في أجمل لحظات عمره، لقهرنا وزيادة وجعنا. كانوا يستطيعون اعتقاله، لكن الهدف كان قتله، حتى إنهم اعتقلوا أخي إيهاب الذي خرج من الأسر قبل أسبوع".
رفيق الدرب
يروي أحد رفقاء فاروق تفاصيل اللحظات الأخيرة التي أمضاها مع صديق طفولته: "كنا نتوقع أن يكون هناك مداهمة من الاحتلال، لكننا توقعنا أن يكون يوم العرس، فانصبت أفكار التأمين والتصدي لأي غدر على مكان الحفل، ولم نتوقع أن يأتوا في أثناء وجوده بالملحة".
ويتابع: "قبل هجوم القوات الخاصة بثلاث دقائق، تلقى اتصالًا هاتفيًّا، بضرورة مغادرته المكان، فطلب من أصدقائه المغادرة، لكنهم رفضوا وفي أثناء الحوار والإيثار المتبادل، وصلت القوات الخاصة وأطلقوا النار عليه".
قبل استشهاد القائد بمجموعة عرين الأسود وديع الحوح بيوم، أرسل مسبحة إلى فاروق، وبعد استشهاد الأخير ظهرت صورة تجمعهم، صورة حيرت الجميع حول رابط الصداقة لكون كل منهما في مدينة، إلا رفيق دربه يقول: "فاروق كان يذهب للاشتباك في المواجهات التي تخوضها عرين الأسود، شارك في فك حصار عن مقاومين ومطاردين".
بدأت أول اعتقالات فاروق لدى الاحتلال عندما كانت سنه 16 عامًا، ثم توالت الاعتقالات التي بلغت في مجموعها ست سنوات. نال حريته في يونيو 2021 بعد 24 شهرًا من الأسر، كما اعتقل لدى أمن السلطة مدة شهر في سجن أريحا، وفقًا للصديق ذاته.
يزيح الستار أكثر عن شخصيته: "عشت معه في حارة واحدة منذ كنا طفلين، نذهب معًا طوال الوقت، هو شاب طيب، ملتزم الصلاة في المسجد، تستطيع القول، إنه الأب الروحي للشباب في المخيم، شخصية محبوبة تراه يصادق كل الفئات العمرية، وله شخصية وحدوية مع كل أبناء الفصائل".