اقتحم جيش الاحتلال البيت بضوضاء صاخبة دبّت الرعب في أوصال ساكني البيت، تمام الثانية ليلًا، وحيث المسافة الزمنية التي تفصل حفل زفاف عريسنا باتت أقل من نصف يوم. انتشر الجنود بعد نجاحهم في خلع البوابة من جذورها ببراعة فائقة اعتادوها. انتشروا في البيت، قلبوا محتوياته رأسًا على عقب؛ في دقائق معدودة أصبح قاعًا صفصفًا وكأنّ زلزالًا قد حلّ به وضربه من جذوره.
نعق ضابطهم الجملة التي اعتاد أن يتلذذ بها في مثل هذه الحال:
ـ سلام أنت معتقل، تفضّل معنا.
اجتاحت غمامة سوداء قلب سلام؛ انقبض صدره وكأنّ صخرة استقرّت في أعماقه. هل يُعقل أن يُعاد إلى الاعتقال عشية عرسه؟ ألم يشبعوا من ربع قرن قضاه في سجونهم السوداء؟ ألم ترتوِ ساديّتهم من عذابات لها أول وليس لها آخر، خاصة في آخر سنتين، زمن حربهم على غزة؟ لقد عجّبوا عليه فيها: ضرب وتكسير وإذلال وتنكيل ليل نهار لكسر إرادته وضرب روحه من أعماقها. جاء الفرج عبر صفقة تبادل مع المقاومة، فهل العودة إلى المعتقل الآن سهلة؟
أمّي؟ والخطيبة؟ كيف ستحتملان هذه المصيبة؟
حاول جاهدًا أن يتماسك وألّا يبدو أمامه ضعيفًا؛ ثبّت عينيه في عيني هذا المفترس وهتف:
ـ بتهمة؟
ـ مخرّب.
ـ وماذا فعل هذا المخرّب؟
ـ أنت معتقل إداري، الملفّ سرّي… ولا تكثر أسئلة.
ثم أسلم يديه لقيودهم البلاستيكية القاسية بعد أن أسلم قلبه لله، وأخذ يحسبل ويحوقل ويستجيش من وحي ايمانه ما يجعله يقوى على هذه الضربة القاسية. علّه بذلك يزحزح تلك الصخرة التي جثمت في صدره.
وانطلقت رحلة الاعتقال. تبدّد العرس وتأجّل إلى موعد غير مسمّى. دفعوه بعنف إلى الناقلة الصمّاء التي تنقل المعتقلين إلى “مدافن الأحياء”، فاشتم فيها رائحة السجن وعفن السجّان. تقرفص بين أقدام تركله ذات اليمين وذات الشمال. علا صراخهم، وصمّت أذنيه سخريتهم. كان الجنود يملكون معلومة ذهبية: معتقلهم اليوم عريس، وفي هذا مادّة للتندر والشماتة والمزيد من التنكيل.
كانت “البوسطة” تغذّ سيرها، وسلام يمرّ عليه شريط السجن بكل ويلاته وسوءاته؛ شريط صاخب من المعارك غير المتكافئة بين طرف يملك كل أدوات الحقد والغلبة والتنكيل، وطرف ليس له من الأمر شيء سوى الصبر والثبات والأمل.
اشتعلت مواقع التواصل بالخبر، وعلم الجميع باعتقال العريس وتدمير الفرحة. تخيّل ضابط المخابرات مسؤول المنطقة أنّ هناك حربًا ضروسًا يخوضها بكل ما يملك من خبرات وقدرات وعبقريات، على جبهة عند الفلسطينيين تُسمّى فرحة أو عرس؛ فلا شكّ أن هذه جزء أصيل من كينونتهم الوطنية. وحتى ينتصر عليهم نصرًا مطلقًا، لا بدّ من الانقضاض على هذا “الجيش العرمرم” من الفرح والروح الفلسطينية المعادية؛ لا بدّ من تحقيق نصر مؤزر في هذا الميدان الهام من الحياة الفلسطينية النكراء.
بات سلام تلك الليلة في زنزانة على قارعة مكاتب مخابراتهم؛ ليلة كانت كألف ليلة. لم يغمض له جفن، وبقي محدّقًا في سقفها يشاهد عرسه التليد، يحاول إكمال الفرحة برؤية مشاهدها وهي ترتسم على سقف الزنزانة.
ورغم الألم الذي غصّ به صدره، إلا أنّ هناك شعاعًا من أمل كان يحاول جاهدًا أن يشقّ طريقه وسط هذه الظلمات.
مرّ صباح اليوم التالي ثقيلًا، مرًّا، علقمًا. كم صباحًا سيأتي عليه في هذه الحبسة الجديدة؟ ومتى سيستأنف عرسه من جديد؟ وهل تراهم حينها يتركونه يتزوج بسلام، أم يعيدون الكرّة كما فعلوا الليلة؟
لا يمكن أن يكون هناك فرحة إلا بزوال الاحتلال. حكي فاضي أن نتغاضى عن وجوده في كل تفاصيل حياتنا، حتى في ما يسمّى “استراحة المجاهد”. إنهم لا يريحون ولا يستريحون.
فجأة، بعد الظهر بقليل، قطعوا على سلام خلوته. فتحوا بابهم الثقيل وظهر كبيرهم الذي علّمهم السحر. حاول رسم فرحة أو ابتسامة على وجهه، ظهرت فيها كلّ الصفات إلا أن تكون فرحة أو ابتسامة بريئة.
قال:
ـ قررنا الإفراج عنك… مبروك. روّح لعرسك.
ابتسم سلام ابتسامة شاحبة، بين أن يكون مصدّقًا أو مكذّبًا، وهتف:
ـ فكرك بقي فيها عرس؟
ـ المهم أن يكون الأمن مستتبًا.
ـ وبما فعلت… يستتب الأمن؟
ـ عندكم المثل يقول: "درهم وقاية خير من قنطار علاج"، صحيح؟
ـ وهل مطاردة فرحتنا والتنكيد علينا هو درهم الوقاية عندكم؟
هبّ الضابط واقفًا كمن لسعته أفعى، بسط يده ليسلّم، ونعق:
ـ المهم أجت المرة سليمة… دير بالك. أوعى تغلط معنا.
ثم تابع:
ـ يا الله… الحمد لله على السلامة.
وفي المساء كان العرس. حوصِر المكان من قوات جيش الاحتلال، لعلعت الزغاريد في السماء، وعمّت الفرحة رغم أنف الاحتلال.