فلسطين أون لاين

عملية الخليل والأمن الموهوم

تعدُّ عملية الخليل التي وقعت مساء السبت الماضي (29 أكتوبر/ تشرين الأول) قرب مستوطنة كريات أربع، المقامة على أرض الخليل، خرقا لهدوءٍ نسبيٍّ حلّ في المدينة، وما حولها، منذ فترة، بعد نزاعاتٍ عائليةٍ وعشائرية، شغلت جزءًا من اهتمام المدينة، التي عُهِدت معقلًا صُلبًا، ومَوْردًا سخيًّا في مقاومة الاحتلال. وأسفرت العملية عن مقتل مستوطن، وإصابة خمسة، أحدهم بجراح خطرة، واستشهاد المنفِّذ، محمد الجعبري.

حدثت هذه العملية في توقيت حسَّاس؛ قُبيل انتخابات الكنيست التي احتدم فيها التنافُس بين معسكر رئيس الحكومة السابق بنيامين نتنياهو، وهو الذي يتلهَّف لاقتناص أيِّ فشلٍ أمني، أو غيره، من أجل التحصُّن بمركز رئيس الحكومة من التُّهَم التي تلاحقه؛ مصوِّرًا نفسَه حاميًا للصهيونية اليمينية، مقابل يئير لبيد، وبني غانتس المُعَيَّريْن بنقصٍ اليمينية؛ باقترابهم من اليسار، ومشاركتهم أحزابا عربية في الائتلاف الحكومي، هذه الديباجية الرائجة كانت من أسباب مبالغة حكومة الاحتلال التي تعيش آخر أيامها في قتل الفلسطينيين، على نحوٍ غير مسبوق؛ الأمر الذي انتقدته الأمم المتحدة، وبحسب أرقامها استشهد أكثر من مائة فلسطيني، في الأشهر الأخيرة، وحتى الولايات المتحدة، طالبت بخفض مستوى العنف والقتل.

وفور الإعلان عن العملية، عمّت الخليل حالة ابتهاج عبَّر عنها الفلسطينيون في الشوارع؛ كردَّة اعتبار، ربما، على ما اقترفه الاحتلال في نابلس، وفي جنين، من قبل؛ وفي جديدها أخيرا تصفية مقاومين من "عرين الأسود" في نابلس؛ ما يؤكِّد الالتفاف الشعبي نحو هذا الخيار المقاوم، بل يؤكّد وجود تعطُّش شعبي له، رغم أن الكل الفلسطيني يعلم الأثمان الشاملة المتوقَّعة.

وتأتي أهمية هذه العملية من ترجيح أن تكون بداية فتح جبهة الخليل، المحافظة ذات الثقل السُّكّاني الأكبر، في الضفة الغربية، والأكثر معاناة من المستوطنين، الأكثر عدوانية، وعنصرية؛ لتتصل بذلك خطوط المقاومة من جنين شمالًا إلى الخليل في الجنوب؛ فيما يحاول قادة الاحتلال صرْف الأذهان عن هذه الحالة، بالتعاطي مع هذه التطوّرات، وكأنها أعمال متفرِّقة، يُبدون إزاءَها معالجاتٍ موضعية، فيما الأيام المقبلة ستكشف صوابية هذه الصورة، أو خطئها، إذا اتَّضح أن الزخم الكامن، في الضفة الغربية، قادرٌ على التوسُّع الجغرافي والامتداد الزمني.

بالرغم من أن مقولة "من مأمنه يؤتى الحذِر" من أكثر ما يأخذ بها قادة الاحتلال السياسيون والأمنيون، إلا أن الأمن يظلّ حلمًا بعيدًا، وأيُّ أمنٍ هذا الذي لا يمكن ضمانه، ويتوقَع خرقُه، في كلِّ وقت، وفي كلِّ مكان، برغم كل ما يُبذَل من جهد في التفكير، والبحوث، والخطط والتدابير، وما يُبذَل من نفقاتٍ وإمكانات، وما يكلِّف من أرواح ومعاناة، أكثرها نفسي جمعي؟

أيُّ دولة هذه التي يتحتَّم عليها، وفق تصريحات لقادة لها، متكررة، أن تعيش، وتظلّ، في حذر بالغ، وتوجُّس مستمر؟! لا تهدأ موجةٌ إلا لتندلع موجة، ولا يهدأ جيل فلسطيني، إلا ليسلِّم جيلًا. .. الهدوء ينذر بضده، وانتظام الحياة يخدع بتولُّد أسباب كسرها واضطرابها.

وعلى هذه الأرضية، لا يملك الفلسطينيون إلا شجاعتهم، واستعدادا لا ينفد للتضحية، وإيمانهم؛ من الصغير إلى الكبير، بالمعركة التي يخوضونها، بالحقّ المنتهَك، بآليَّات المبادَرة، والمباغَتة، مقابل عقيدة التمترُس الصهيوني، والاستقواء بالغطاء الأميركي، وسط محيطٍ عربيٍّ منهَك بأزماته الداخلية، ومواقف رسمية يغلب عليها الانتهازية، أو التواطؤ، أو الضعف. فيما المعطيات تفيد بأن دولة الاحتلال، بمنظومتها السياسية والأمنية، حسمت طريقها نحو إخضاع الشعب الفلسطيني، فلا أفق سياسيًّا، ولكن آليات المشروع الاحتلالي العنصري مستمرّة، وأكثر نشاطًا، واستفزازًا؛ من استيطان، يقابله هدم لبيوت الفلسطينيين، ومن حصار وعقاب جماعي، يقابله إطلاق يد المستوطنين، وحمايتهم، بجنود الاحتلال، أولئك المستوطنون الذين يعترضون عصب الحياة اليومية، ولا ينجو من تعدِّياتهم اليومية لا شجر، ولا حجر، ولا تراب، ولا بشر.

يدفع ذلك كله ويصونه تنامي التطرُّف في مجتمعهم. وطريق النجومية صار معروفًا؛ مزيد من العداء للفلسطينيين، ولوجودهم، والتحريض عليهم، وصفة مضمونة لرفع الشعبية. هذا مع أن الاعتبارات التي باتت تحكم الصراع أكبر من انتخابية، أو شخصية، فالتيَّار الاحتلاليُّ الأكثر تأثيرًا هو تيَّار استشعار الخطر الوجودي، وكلُّ من يداعب هذا الاتجاه؛ من السياسيين الطامحين تزيد شعبيتُه، وتُغفَر أخطاؤه الأخرى، ولو كانت خيانة الأمانة، وفقدان النزاهة، اللازمة للحكم، كما هو شأن نتنياهو.

المصدر / العربي الجديد