لا شك أن الانتخابات الإسرائيلية تحمل في مضمونها العام الشعار العسكري، وهو ما يعكس الصورة الحقيقية لواقع المجتمع الصهيوني العسكري بامتياز، القائم على مبدأ استخدام القوة المفرطة ضد الشعب الفلسطيني، بداية بالعصابات الصهيونية الدموية الإرهابية (هاجاناة، وإيتسل، وإشتيرن) قبل إنشاء كيان الاحتلال على أرض فلسطين -فقد كانت المكون الأساسي لجيش الاحتلال- والمستوطنين، وبقية أفراد المجتمع الصهيوني، لذا يتنافس الجمهور الصهيوني صاحب الأيديولوجية العسكرية على الأخذ في الحسبان عند انتخاب من يمثله أن يختار الأكثر تطرفا ودموية.
فمنذ عام 2001 أجريت 10 انتخابات نيابية إسرائيلية، كان من بينها 7 انتخابات سبقتها حروب أو عمليات عسكرية، لكن علمتنا التجارب السابقة أن الشعب الفلسطيني قادر على كسر هذه القاعدة، وإبطال مفعولها، والتاريخ يعيد نفسه، فأغلبية قادة الاحتلال مطلوبون للعدالة الدولية، لمحاسبتهم على الجرائم التي ارتكبوها ضد الشعب الفلسطيني، منذ أن وطِئت أقدامهم أرض فلسطين. فالمقاومة أصبحت لاعبا أساسيا في عدم الاستقرار السياسي لدى الاحتلال، فاليوم يسقط الشريران الاثنان في الانتخابات: لابيد وغانتس، اللذان أمعنا في البطش والتنكيل بالشعب الفلسطيني على مدار الأشهر الماضية تحضيرا للانتخابات، معتقدَيْن أن هذا الشعب سيقف مكتوف اليدين، ويمكن أن يحققا أهدافهما السياسية على حساب الدم الفلسطيني.
لم يتعلم قادة الاحتلال من دروس الماضي، فعندما أقدم شمعون بيريس على عملية اغتيال الشهيد يحيى عياش، قبيل الانتخابات الإسرائيلية عام 1996، ليرفع رصيده أمام منافسه نتنياهو، سارعت حركة المقاومة الإسلامية (حماس) بالانتقام، ونفذت هجمات استشهادية قاسية في عمق الاحتلال قتلت 60 إسرائيليا وأصابت المئات، أدى ذلك إلى خسارته في الانتخابات. وفي عام 2008 خسر إيهود أولمرت في الانتخابات أمام منافسه نتنياهو، بسبب حرب “الرصاص المصبوب” التي شنتها قواته على غزة، إلا أنه تفاجأ بردها الصاع صاعين. وقد مُني “الليكود” بضعف كبير بتراجع شعبيته في عام 2014، بسبب حرب “عمود السحاب”، التي بدأت باغتيال الشهيد أحمد الجعبري، القائد العسكري في حركة حماس، التي ردت بقوة على العدوان.
ومنذ عام 2019 خاض الاحتلال خمسة انتخابات في أقل من أربع سنوات، حاول نتنياهو التستر بها عن الملاحقة القانونية لقضايا الفساد والشبهات المأخوذة عليه، فشنَّ حربا بالشراكة مع غانتس على غزة في عام 2021، وقد مُني بهزيمة مزدوجة عسكريا، وأيضا سياسيا، لخسارته في الانتخابات أمام منافسيه بينيت ولابيد، اللذين دارت عليهما الأيام بسقوط الحكومة الائتلاف (يمين-يسار) في أقل من سنة واحدة، وأخذ كل واحد منهما التحضير للسباق للانتخابات “الكنيست”، لمحاولة تحقيق إنجازات أمام الناخبين تساعدهما في التنافس للعودة مرة أخرى إلى الحكومة على حساب الدماء الفلسطينية.
فبدأ ذلك بتكثيف اقتحامات المستوطنين وجيش الاحتلال للمسجد الأقصى المبارك، والعبث بحرمته وبقدسيته، واستفزاز مشاعر الفلسطينيين، ما أدى إلى انفجار الأوضاع في القدس وبقية الأراضي الفلسطينية المحتلة، للدفاع عن الأقصى. فلم يكتفِ قادة الاحتلال بذلك، فأرادوا النيل من غزة المحاصرة، فشنت قوات الاحتلال عدوانها الغاشم بدأته باغتيال غادر لقائد المنطقة الشمالية لسرايا القدس (الذراع العسكرية لحركة الجهاد الإسلامي) في غزة، الشهيد تيسير الجعبري، وقادة آخرين بارزين في الحركة، إضافة لعدد كبير من الشهداء والجرحى، وتم هذا في أثناء جهود كانت تبذلها الوساطة المصرية لمنع تدهور الأوضاع، في إثر إقدام الاحتلال على اعتقال القيادي البارز في حركة الجهاد الإسلامي في جنين بالضفة الغربية بسام السعدي. وبعد انتهاء العدوان الذي استمر 3 أيام، أظهر استطلاع رأي للمجتمع الصهيوني أجرته القناة 12 العبرية، أن الأغلبية كانت مؤيدة لغانتس ولابيد، وبناء عليه اعتقد كلاهما أنهما الفائزان في الانتخابات، لكن الحسابات تغيرت كلها على أرض الواقع، فالمقاومة في الضفة بالمرصاد لكل تصعيد من الاحتلال، وقد تفاجأ بزخمها وسرعة تطورها، فضربت عمقه بعمليات فدائية لم يشهدها منذ سنوات طويلة، وتوسعت في أغلبية مناطق الضفة المحتلة، وأصبح لابيد وغانتس في وضع لا يحسدان عليه.
الانتخابات الإسرائيلية ما هي إلا لعبة سياسية داخلية، تحقق الأحزاب السياسية الصهيونية فيها مصالحها الأيديولوجية، القائمة على المبدأ الاحتلالي الاستيطاني، لذا لا يهتم الشعب الفلسطيني بمن يفوز، أو من يترأس حكومة الاحتلال، فلا فرق بين “الليكود والعمل” ولا بين يمين ووسط ويسار، فكلهم متفقون على الغلو في الدم الفلسطيني، والعلو في الاستيطان، والتهجير، وسلب أراضي وممتلكات الفلسطينيين، وعدم إعطائهم حقوقهم، وكل حكومات الاحتلال بغض النظر عن مكوناتها الحزبية تشهر لاءاتها الثلاث: لا دولة، ولا عاصمة، ولا عودة، وكل ما يهمها التنسيق والتعاون الأمني مع السلطة الفلسطينية؛ لضمان أمنها، والبقاء على حالة “الستاتيكو”، والرضوخ للأمر الواقع، لكن اليوم أصبحت المقاومة هي التي تفرض المعادلة على حكومات الاحتلال، التي تتهاوى واحدة تلو الأخرى، لفشلها سياسيا وعسكريا وأمنيا.