فلسطين أون لاين

في أثناء تغطيتها العدوان على نابلس

فرح قيم.. صحفية تلت خبر ارتقاء شقيقها "حمدي" بالزغاريد

...
فرح قيم تزغرد بعد سماع خبر استشهاد أخيها
نابلس-غزة/ يحيى اليعقوبي:

كانت الصحفية بـ"تلفزيون الفجر" فرح قيّم تغطي أحداث العدوان الإسرائيلي على مدينة نابلس شمالي الضفة الغربية المحتلة من نافذة منزلها، وما إن دوى صوت انفجار قوي هزَّ منطقة سكنها في الأسفل، لفتت انتباهها أصوت تكبيرات يصدح بها شقيقها محمد، وهو يركض ويضع يده على بطنه، فحولت زاوية التصوير تجاهه معتقدةً أنه يتفاعل مع الحدث مع بقية الشباب، لكن بقع الدماء التي تملأ ملابسه جذبت كل تركيزها، وجعلتها تغلق الهاتف المحمول فورًا وتنهي التغطية.

محمد الذي ذهب لإسعاف شقيقه حمدي قيم (30 عامًا) في إثر استهداف سيارته بصاروخ إسرائيلي، ما إن وصل إلى السيارة برفقة مجموعة من جيرانه حتى استهدفها الاحتلال مرة أخرى، فتعرض للإصابة.

ساحة حرب

على الرغم من الشظايا التي اخترقت جسده، والدماء التي تملأ ملابسه، أبى محمد إلا أن يكون أول من يزف استشهاد شقيقه لوالدته وشقيقته الصحفية، كان يشد على صوته المتألم الذي يسبقه في الوصول لأذن أمه ويستقر في قلبها: "نيالك يا أم حمدي.. ابنك شهيد"، ثم بدأ يغيب عن وعيه بسبب الإصابة، ليُنقل عبر سيارة إسعاف إلى المشفى، ويترك المنطقة التي حولها جيش الاحتلال إلى "ساحة حرب".

"أخوي كان بالسيارة اللي انفجرت، طمنونا مش عارفين نوصل المستشفى".. أرسلت فرح تلك الرسالة إلى مجموعات الصحفيين على تطبيق "واتساب"، تتعلق بأي أملٍ أن يكون محمد مخطئًا، وأن يكون حمدي لا يزال على قيد الحياة.

أفاد أحد الصحفيين بوجود جثمان لشهيد، سألته عن اسمه، وتأملتْ أن تقرأ اسمًا غير اسم شقيقها، وأن ترتد إلى قلبها الفرحة، لكن الصحفي كتب اسم الشهيد: "حمدي قيّم".

لأول مرةٍ تخرج فرح عن قواعد الصحافة في نقل الخبر، فرضتها قوة الحدث، لحظاتٌ تحولت فيها من ناقلٍ للحدث إلى القصة والحدث ذاتهما، تلت الخبر على صفحتها في "فيسبوك" بحروفٍ وكلماتٍ مزقها وجع الفقد: "روح قلب أمه استشهد يا ناس، يا عالم" مواصلة ذلك بالزغاريد.

قبل يومين من الحدث غطت فرح جريمة اغتيال المقاوم بمجموعة "عرين الأسود" تامر الكيلاني، وغطت أحداثًا كثيرة في نابلس، ولطالما كانت تواسي أهالي الشهداء والمصابين بكلمات تخفف من جرح الفقد، هذه المرة أدركت أن كل كلمات المواساة لن تعبر عن شيءٍ يعيشه ذوو الشهيد أنفسهم.

أدركت فرح أن الفرق بين تغطية الحدث وعيشه لا يمكن اختصاره بكلمات مواساة: "كل الكلمات التي كنت أواسي بها أهالي الشهداء جاءت الناس وواستني بها، كنت في عالم آخر، تخليت في لحظةٍ عن كوني صحفية، أصبحت أخت الشهيد، أريد تكذيب الخبر، بحثت عما يكذبه، لكنني لم أجد إلا الحقيقة أمامي، وأنَّ عليَّ نعيه ونقل الخبر بصفتي صحفية وأخت شهيد".

يوم دموي

"عندما جاءني أخي محمد تملؤه الدماء ويصرخ: حمدي استشهد، لم أستوعب الموقف، واتضح لنا فيما بعد أنه كان ينوي إنقاذ شقيقنا حمدي إلا أنه أصيب بشظايا في بطنه ويده وعينه التي لا يزال غير قادر على فتحها".. تبكي فرح وهي تروي لصحيفة "فلسطين" ما عايشته.

حاول والدها الذهاب للمشفى للاطمئنان على شقيقيها حمدي ومحمد، لكن شباب المدينة أرجعوه ومنعوه من مواصلة طريقه بسيارته، نتيجة انتشار جيش الاحتلال بكثافة في المنطقة، وإطلاق النار بغزارة في كل مكان.

جيبات عسكرية تدخل مناطق مختلفة من مدينة نابلس، أصوات اشتباكات متواصلة، انفجارات، جنود يعتلون المباني، الشبان يشعلون الإطارات ويرشقون الحجارة، هكذا عاشت نابلس فجر أول من أمس يومًا دمويًا ارتقى فيه خمسة شهداء، سيبقى شاهدًا على دموية الاحتلال.

لا تعلم فرح إن كان شقيقها الشهيد حمدي مقاومًا أو مطلوبًا للاحتلال، ولا تعرف سبب استهدافه، لكن قبل يومين وفي أثناء سقوط المطر انتبهت لدعائه وهو يقف بجانبها ويطلب من زوجته الدعاء له بـ"الشهادة"، اكتفت بالنظر إليه، مرَّ الأمر عاديا، فهذه الأمنية يتمناها الكبير والصغير والرجل والمرأة في فلسطين.

غزتها الدموع وبدأ صوتها بالاختناق، حينما مرت على بعض ذكرياته، وهي الأشياء نفسها التي كانت تستحضرها من الناس في أثناء إعداد قصص الشهداء، تقول عنه: "أينما كان هناك أناس بحاجة للمساعدة كان يقدمها فورا بلا أجر".

والشهيد حمدي كان أبا لطفلين؛ صبيح (3 سنوات) وسليمان (عامان)، تتوقف شقيقته عند تعلق طفله البكر به: "صبيح متعلق بوالده كثيرًا، يلاحقه أينما ذهب، حتى عندما يذهب للعمل، كان والده دائمًا يحدثه عن الجنة وعن النبي محمد (..) بعد الاستشهاد يسألنا: وين بابا؟، أخبرناه أنه في الجنة، لم نسمح له بحضور مراسم التشييع، نريد أن يعيش طفولته، وسيعرف مع الأيام الحقيقة ومرارتها".

لحظة استقبال جثمانه واقتراب المشيعين من منزله، طلبت فرح من النساء عدم البكاء، وضعت يدها قرب فمها، وتعالت الزغاريد منها ومن النسوة، في مشهدٍ حبستْ فيه دموعها، تخاطبه: "شايفين محلاه"، تستبدل لحظة الفقد بصورة نصرٍ باتت تصنعه أمهات وشقيقات الشهداء.