منذ أكثر من عاميْن والمقدسي محمد البازيان يضم القرش إلى القرش واضعًا نصب عينيه إعادة بناء منزله في المدينة المحتلة الذي هدمه الاحتلال مرتيْن، لكن رغم كل الخسائر المالية وملاحقات الاحتلال فإن امتلاك منزلٍ في القدس مجددًا هو أسمى أمانيه، وهو يبذل كل جهده لبنائه من جديد.
بدأت حكاية البازيان مع الهدم في عام 2017م في إثر منشوراتٍ له على وسائل التواصل الاجتماعي تدعم "هبة البوابات" في الأقصى آنذاك، وتنادي بتحريره من الاحتلال، فاستدعاه الاحتلال الإسرائيلي للتحقيق عدة مرات، ونتيجة رفضه الانصياع لأوامرهم بعدم "التحريض" هدمَ الاحتلال منزله وهو قيد الإنشاء.
وفي عام 2020م فوجئ باتصال مباغت من أحد ضباط مخابرات الاحتلال الذي هدده وطالبه بالرحيل من القدس، كونه أسيرًا سابقًا قضى قرابة 14 عامًا متفرقة في سجون الاحتلال على خلفية نشاطه في الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين.
واعتُقل البازيان في المرة الأولى عام 1992م، وكان الاعتقال الأخير له في عام 2018 لمدة 48 شهرًا إداريًّا، كما تعرض للإصابة بالرصاص 5 مرات خلال مواجهات بين الاحتلال الإسرائيلي والمواطنين.
وبينما كان في عمله في مدينة شفا عمرو تفاجأ باتصالٍ يخبره بأن جنود الاحتلال يطوقون منزله بالقدس، وقد أخرجوا والدته وزوجته وأبناءه منه.
اتهموه باستهدافهم
هرع البازيان بسيارته للمكان فوجد جنود الاحتلال قد هدموا نصف المنزل تقريبًا على ما فيه من ملابس وأثاث وذهب وأموال، طلب منهم وقف الهدم حتى يتسنى له إخراج بعض المقتنيات خاصة الأوراق الثبوتية منه، لكنهم رفضوا ذلك بل اتهموه بمحاولة دهسهم كونه كان يقود سيارته بسرعة جنونية.
يوميًّا يذهب المواطن المقدسي محمد البازيان إلى أرضه التي بقيت خالية من المعالم بعد أن سوَّى الاحتلال الإسرائيلي بيته بالأرض مرتيْن، في ظل عجزه حتى اللحظة عن إعادة إعماره مجددًا.
ويتابع البازيان: "دفعتُ مبالغ باهظة في سبيل الحصول على رخص البناء منذ عام 2000م، منها 400 ألف شيقل للمحكمة ومليون شيقل للمحامي وغيرها من التكاليف الباهظة، وكل ما طلبوه مني من إجراءات وأوراق كنت أنفذه لكن ذلك لم يشفع لي بوقف الهدم".
لم يكن مشهد الهدم بالسهل أبدًا على نفس البازيان وعائلته وهم يرون حلم العمر الذي ظلوا لعشرين عامًا يجمعون القرش على القرش كي يحصلوا عليه ينهار أمام أعينهم دون سابق إنذار، "خرجنا فقط بما كنا نرتديه من ملابس، "تكبدتُّ خسائر باهظة لم أستطِع تعويضها حتى اللحظة، ولا أستطيع معاودة البناء".
لجأ البازيان لوضع "كرفان" في الأرض بعد هدم المنزل، لكن قوات الاحتلال سارعت إلى مطالبته بإزالته وأوقعت بحقه غرامة مقدارها 30 ألف شيقل، فلم يكن أمامه سوى زراعة الأرض بالزيتون الذي يمثل بالنسبة له علاقة الارتباط الأزلية بين الفلسطيني وأرضه، في انتظار عودةٍ قريبة لتلك الأرض للعيش فيها.
وأعرب عن اعتقاده بأن الاحتلال يريد إفراغ أرض القدس من سكانها الأصليين بأي طريقة وعلى رأسها هدم البيوت، "لكنهم لا يفهمون أن تلك السياسة تزيدنا تمسُّكًا بأرضنا ورغبة بالعيش فيها وكرهًا لهم ولعنصريتهم المقيتة"، يؤكد البازيان.
ورغم مرور قرابة عاميْن على الهدم إلا أن تلك الحادثة الموجعة لا تزال راسخة في وجدان ابنته "ريتال" التي عادت يومها من مدرستها لتجد بيت عائلتها أثرًا بعد عين.
تقول:" لماذا هدموا بيتنا؟ ماذا فعلنا؟ لم يتركوا لنا مجالًا لإخراج أي شيء، هدموا البيت فوق ألعابي وكتبي وملابسي".
وتشير إلى أنها تشعر بالقهر وتنهمر من عينيها الدموع كلما تذكرت تلك اللحظات الصعبة، وكيف خرجت لمدرستها آمنة مطمئنة ثم عادت لتجد جدتها وأمها وأشقاءها في العراء بلا مأوى.
وتؤكد أنها تشعر بعدم الاستقرار بعد أن عادت عائلتها للتنقل بين بيوت الإيجار، ولم يعد لها غرفة خاصة بها تضع فيها أغراضها الشخصية.
أما والدها محمد، فيبين أن أهل القدس يدفعون ثمن صمودهم فيها من مالهم وأولادهم وجراحهم، معربًا عن أنه ما زال لديه أمل بأن يعيد بناء بيته في القدس رغم كل الشدائد التي مرّ ويمر بها من قلة ذات اليد وعدم وجود أي داعم للمقدسيين.
ويضيف: "فلا سجن يدوم، ولا أرض ستبقى محتلة، وسنبني بيوتنا المهدومة يومًا، ولن نتزحزح عن أرضنا مهما كلفنا ذلك".