اصطفت سيارة الإسعاف أمام مستشفى جنين الحكومي، وعلى الفور هرع الأطباء والمسعفون لنقل الإصابة وحملها لقسم الطوارىء، أزاح الطبيب مجيد إرشيد اللثام عن وجه المصاب، واتضحت ملامحه له، لكنه لم يحرك ساكنًا وتجمَّد في مكانه، وبدأت دموعه تتساقط.
لأول مرةٍ؛ كانت أدوات الجراحة ثقيلة لم يستطِع حملها كثقل وجعه، وهو يرى زميله وصديقه المقرب بنفس المشفى عبد الله الأحمد "أبو التين" ممددًا على السرير الطبي مُضرجًا بدمائه، وكان أمام أصعب مهمة في حياته في محاولة إسعاف صديقه وهو يلفظ آخر أنفاسه.
بدأ صديقه يحاول وقف نزيف الدماء المتواصل من رأسه، وهو يسمعُ شهقاته الأخيرة وتتابع أنفاسه الخافتة يحتضر، ليرحل الطبيب المشتبك شهيدًا.
الطبيب الأحمد، وحيد أهله وأب لطفلين، خلع رداءه الطبي الأبيض لحظة اقتحام جيش الاحتلال للمخيم وتنازلَ عن مكانته الوظيفية المرموقة، وارتدى بزة عسكرية ولثام الثوار وحمل بندقية بدل مقصِّ الجراحة، ليُداوي جراح وطنٍ لا تستطيع الخيوط الطبية أن تلأمه.
رجل وطني
"كان الخبر صاعقًا، لم أتوقع أن يقولوا لي: استُشهد الطبيب عبد الله، الذي كان بالقرب من المشفى مقاومًا، والموقف المؤثر أنّ الذي أسعفه كان صديقه المقرب لم يتعرف إليه إلا عندما أزاح اللثام عنه، لكننا لا نستغرب مقاومته فكان رجلًا وطنيًّا"، صاحب هذه الكلمات الدكتور وسام جميل بكر مدير مستشفى جنين، استهل بها حديثه لصحيفة "فلسطين".
يعود لبدايات عمل الطبيب الأحمد بالمشفى، يطلُّ من الذاكرة على أول يوم حضر فيه، مستذكرًا بعدما ألقى على روحه السلام: "عرفته عندما كان طبيب امتياز، وجاء إلى مستشفى جنين، كان صغيرًا، عرفناه خفيف الظل، حلو المعشر صاحب لسان حسن في التعامل، مثابرًا، نشطًا، فترك أثرًا عند جميع الأطباء والزملاء".
بدأ الطبيب الأحمد، عمله بتخصص الجراحة، يتوقف بكر هنا عند دوره: "كان متفانيًا محبوبًا من الجميع، له شخصية قيادية بدأ العمل بنقابة الأطباء، وكان من الشخصيات المرموقة على الرغم من صغر سنه، وكذلك كان يُعدُّ مرجعًا في حل إشكالات تقع بين الزملاء".
بسبب شخصيته المميزة والقيادية، جرى تعيينه مديرًا لدائرة الإجازة والترخيص في وزارة الصحة، وعرفه الطبيب بكر بأنه "شخصية ناجحة، يتابع المراكز الصحية والمستشفيات، ولم يكن من السهولة عليه الموافقة على ترخيص أيّ مستشفى أو عيادة دون أن يقف على تفاصيلها الصغيرة والكبيرة".
في كل مرة كانت تتعرض فيها جنين لاقتحامات إسرائيلية كان يُبادر الطبيب المشتبك لإسعاف المصابين رغم انتقاله لعمله الإداري.
يقول الطبيب بكر "إنه رجل ميدان، يُسعف ويساعد لحظة الاقتحامات، أينما توجد إصابات كان يذهب للعلاج، وكنا نتصل ونستعين به".
عرّف مدير مستشفى جنين عن الطبيب الشهيد؛ أنه شخصٌ جريء، وكان مرجعية لجميع الأطباء في أيّ خلافات على مستوى محافظة جنين أو أعلى من ذلك، "له رأي صادق، وصاحب موقف رجولي، صديق للجميع كان شخصية جامعة للقطاع الخاص والحكومي"، معتبرًا إياه "شخصية قيادية، مرحة تجذب الآخرين، لذلك معظم أبناء المحافظة والوطن تأثّروا باستشهاده".
الطبيب المشتبك
ربما حالة فريدة أن يكون الطبيب مشتبكًا، يردف: "هو عبَّر عن ذواتنا جميعًا، فنحن كأبناء شعب فلسطيني عندما نشاهد القتل والجرائم والاقتحامات تثور أنفسنا، الطبيب الأحمد امتلك الجرأة، وكان قادرًا على حمل السلاح والمواجهة، جنبًا إلى جنب مع المقاومين".
في لمةٍ عائلية، يجلس الطبيب عبد الله بحضور صهره معتز كميل، في المشهد يلهو طفلا الطبيب عمر وزين اللذين لم يزد عمرهما على خمس سنوات، يلقيان على الضيف وسادات، تتعالى ضحكاتْ الأب، في جوٍّ عائليٍّ جميل.
في صورة أخرى، شاهد الطفلان مُشيّعين يحملون والدهما، جَهِلا كلَّ تفاصيل الحدث وماهية الرحيل، لأول مرة أُخبرا أنه في "الجنة"، اعتقد الطفلان أنه يمكنهما وضع سلم والصعود إليه متى شاءَا، لكنّ سنوات اليُتم القادمة ستُخبرهما بالحقيقة المرة حينما يزوران قبره بعدما يكتمل إدراكهما للرحيل وشكله وقسوته، لكن حتمًا سيفتخران بوالدهما الطبيب المُشتبك.
بصوت مُثقل بالحزن، يقول معتز كميل وهو شقيق زوجة الطبيب لصحيفة "فلسطين: "كطبيب، كان ناجحًا وهذه ليست شهادتي بل شهادة الناس، كان رحيمًا، وتقريبًا لم يتقاضَ أجرًا لأنه بالأساس وضعه المادي جيد، حتى عندما انتقل للعمل الإداري تعامل بنفس الطريقة".
ربما الجميع تساءل عن السبب الذي يدفع بطبيب، لخلع ردائه الطبي رغم أنّ هذا الواجب يكفي للتقديم لأجل الوطن، لكنّ صهره يملك الإجابة، مفتخرًا بما قدم زوج شقيقته رغم قسوة الرحيل: "كان التأثير الأكبر عليه، هو انتهاك حرمة الوطن من الاحتلال، وقتله لأولادنا، لأنه كان قريبًا من الناس يلمس أوجاعهم، فهو شخصية جمعت بين العمل التنظيمي والطب".
كما عاش الوطن في قلبه، كانت عائلته وطنًا آخر كرّس حياته لأجلهم، يقرب الصورة أكثر هنا: "هو من أكثر الناس حبًّا لعائلته، أو تستطيع القول، هو شخص عائلي بامتياز، رضي لزوجته وأمه وأولاده، كما أنّ شخصيته المرحة كانت مانعًا بينه وبين أي خلاف مع أحد، جمعتني فيه كل مناسبة وموقف، وسهرة لا يمكن نسيانها".
القريبون من الطبيب المشتبك، دائمًا شاهدوه برداء طبي، لكنّ الصورة التي طُبعت في ذهن الشعب، صورته وهو يحمل خمس بنادق، اثنتان رفعتهما يداه للأعلى وعينه تنظر إلى الأفق الذي رأى فيه فلسطين، وثلاث بنادق على جانبيه ووسطه.
ملثمٌ يُصوّب بندقيته تجاه قوات جيش الاحتلال بالقرب من مستشفى جنين، طبع الطبيب صورة في الأذهان، كان يقاتل جنبًا إلى جنب وكتفًا بكتف مع المقاومين مُقبلًا غير مدبر في آخر اقتحامات جيش الاحتلال للمخيم، قبل أن يرتقي شهيدًا برصاص قناص، وتشفي دماؤه جروح الوطن كما شفته رصاصاته.