لا تنتقص الرومانسية التي يلفّ بها الفلسطينيون ظاهرة "عرين الأسود" في نابلس، من واقعية الظاهرة وحقيقتها، وقدرتها المدهشة على الارتفاع المعنوي بالفلسطينيين، ومدّ الظاهرة الكفاحية إلى مناطق أوسع في بلادهم، وهو الأمر الذي بدوره يرتفع من هذه الرومانسية، في علاقة جدلية، بين واقعية الفعل، وبين الشوق الفلسطيني إلى الحقيقة النضالية الأبدية للفلسطينيين، وهي حقيقة دُفعت نحوها مياه ملوثة أسفل جسرهم المنصوب عليهم قيداً واغتيالاً لطمسها. ولكن الحقائق التي تولد مع الشخصية، وتزداد تبلوراً في محطاتها الاستثنائية، لا تنطمس، وإن امتنع بريقها عن تألقه الكامل في غمرة هجمة المسخ والتشويه.
من واقعية الظاهرة، وحقيقتها، إصدارها بياناً منتصف ليلة الثلاثاء (18 تشرين الأول/ أكتوبر)، تدعو فيه جماهير نابلس لاعتلاء البيوت والتكبير، وأن يحمل السلاح ويتأهب للقتال كلُّ من أمكنه ذلك منها. وبدا من صيغة البيان، أن مجموعة "عرين الأسود" قد بلغ إلى علمها استعداد لهجوم من العدوّ تلك الليلة لتصفيتها، فلم تخل تضاعيف البيان من إشارات الوداع، وهو ما يعني أمرين؛ الأول إدراك المجموعة لحجمها المادي وقدرتها الفعلية، والثاني وعيها برسالتها المعنوية في النهوض بالفلسطينيين.
استجابت جماهير نابلس للبيان، وامتدّ الناس مظاهرات في الشوارع، واستعلت البيوت بهتافات الناس من فوقها، ونفّذت بعض المجموعات المسلحة عمليات إطلاق نار، دعمًا لمجموعة "عرين الأسود"، وكأنّ نابلس كانت تعلن هذه الليلة أنّها آخذة في ارتداء لونها، لون جبل النار، من جديد. وكان بعض من تجارها وباعتها قد أعلنوا قبل ذلك انحيازهم للظاهرة، ردّاً على الحصار المطبق الذي يفرضه الاحتلال على المدينة؛ لا في نمط معهود عنه من العقاب الجماعي فحسب، ولكن أيضاً لتحويل المقاتلين إلى عبء على المدينة، وحمل المدينة عليهم رفضاً ومخالفة، ولتحويل المدينة إلى نموذج عقابيّ لبقية مناطق الضفّة الغربية، ولإحياء سياسة "كيّ الوعي"، والتي اعتمدت فيما اعتمدته في الانتفاضة الثانية على الحصار، وشلّ الحركة، وتمزيق الجغرافيا، وضبطها بمفاصل استعمارية مصطنعة. ثمّ قبل ذلك، استجابة شماليّ الضفّة الغربية، وبعض من مناطق وسطها وجنوبها لنداء لـ"عرين الأسود" يدعو فيه للإضراب، وهكذا تمتزج الواقعية بالرومانسية على نحو أخّاذ.
تشكّلت "عرين الأسود" المتحصنة في البلدة القديمة بنابلس، في سياق طويل وممتد، فبنت الظاهرة على سلسلة الهبّات التي اتسعت في القدس والضفّة الغربية، وكان أوسعها وأعمقها أثراً "هبة القدس"، التي اتسمت بالعمليات ذاتية الدافع. وورثت الظاهرة دافعية سلسلة من العمليات المؤثّرة التي حصلت في السنوات السبع الأخيرة، وقد أخذت تتفاعل إزاء حالة الإلهام للقتال الملحمي التي خاضتها المقاومة في غزّة في معركتي 2014 و2021، وهو مسار، كان لا بدّ، وأن يصل إلى مرحلة حرجة من التحوّل، كما هو ظاهر في حالة "عرين الأسود"، وذلك بالنظر إلى المخزون الكفاحي للفلسطينيين، وموقع منطقة الضفّة الغربية تاريخياً من الصراع، وإحساس أوساط من الأجيال الجديدة بالمسؤولية تجاه القضية الوطنية، والتحديات الملحّة، والتي أبرزها حماية المسجد الأقصى، والتصدّي لانتفاش المستوطنين، والإحساس بضرورة حمل كتف مع المقاومة في غزة.
بالتأكيد لم يكن هذا التحوّل الحرج لينفك عن الوقائع السياسية، من الانتهاء الفعلي للمشروع السياسي المؤسس للسلطة الفلسطينية، مع انتفاء مرتكزات شرعيتها الشعبية، وافتقادها القدرة على تعزيز صمود الفلسطينيين، مما كان يعني، وفي السياق المذكور أعلاه، ضرورة تجلّي ظواهر من هذا النوع، تصطف في الفعل الكفاحي الجاري للفلسطينيين، وتمتد تجدّداً لتاريخهم النضالي.
والملاحظ أنّ الظاهرة، على حداثة عهدها ومحدودية حجمها، قد اتسمت بنضج لافت، حمت به نفسها من الاستهداف الداخلي، بتجاوزها الحزبية الصرفة، وتحولها إلى صيغة جامعة، تضمّ عدداً من المقاتلين المنحدرين من فصائل مختلف. وهي لم تكتف بذلك على المستوى البنيوي، وهو الأهمّ، بل وإنها على مستوى الخطاب، صاغت نفسها مجموعة للفلسطينيين كلّهم، وقد تجلّى ذلك حين اعتقال السلطة الفلسطينية لأحد أفرادها، وهو "مصعب اشتية" المحسوب على حركة حماس، وهو أمر يذكّر بتداعياته بالموقف الشعبي في نابلس إزاء حدث كهذا. وقد بدت الظاهرة، متقدمة في نزوعها الوطني العام، وانحيازها للمقاومة بكلّيتها، بلا عناوين حزبية دعائية، على بعض ما سبقها من ظواهر في شماليّ الضفة، وإن كان الكلّ في النتيجة يصطف في موقع قتاليّ واحد.
أخذ هذا التشكيل يتبلور، على النحو المذكور آنفاً، بعد استشهاد ثلاثة شبان مقاتلين في نابلس، في 8 شباط/ فبراير الماضي، وبالرغم من حداثة التجربة، كان لها ذلك الأثر، وهو أمر ناجم بالضرورة من حالة الدفع النضالي العام المستمرّ منذ سنوات، والتحولات النفسية على المستوى الاجتماعي، المتصلة بالتحولات السياسية.
التعويل والحالة هذه على السياقات العامة، لا على التشكيل نفسه، الذي هو جزء من هذه السياقات، الأمر الذي يعني أن الاحتمالات مفتوحة، إما إلى مزيد اتساع للحالة الكفاحية الجارية، أو إلى تجددها في سياق الهبات المتجددة، فبالنظر إلى مجمل عوامل التثوير القائمة، لا يمكن الحديث عن رجوع كامل إلى الوراء.