يبدو أن سياسة الاحتواء أو السير مع التيار لترويضه ومعرفة نقاط ضعفه وتركيز الجهود لتفتيته ممنهجة منذ عقود حيث بدأت فكرة أوسلو اللعينة، فكانت الانتفاضة الأولى شعلة كبيرة وحاضنة واسعة تم اغتيال أبرز القائمين عليها واعتقال آخرين بالتزامن مع طرح فكرة التفاوض والتطبيع والسلام، فكانت تلك الإبرة التي استخدمتها أمريكا والإقليم في تثبيت الاحتلال وتركيز أمنه.
تطورت الأحداث وجاء بعدها ملف انتفاضة الأقصى الثانية التي أشعلت المنطقة وزعزعت العالم وفككت كثيرًا من براغي أوسلو التي كانت مشتتة للجهود وهادرة للحقوق ومضيعة للوقت، فتم اغتيال القيادات وأبرزهم الرئيس الراحل ياسر عرفات والشيخ أحمد ياسين وأبو علي مصطفى، ثم تم الالتفاف الميداني العسكري عليها وفكرة الشرق الأوسط الجديد التي تبنت نظرية الفوضى الخلاقة.
وليدخل الترويض مرحلة واسعة تم استدعاء المال والاقتصاد فيها وخطة مبرمجة من المرتزق دايتون، فكانت الانتخابات عام ٢٠٠٦ محطة احتواء مؤقت جديدة رسموا معالمها في إطار "خمسة بلدي" وطبقوا الفوضى الخلاقة وحاولوا إقحام المقاومة في معادلة سيئة داخلية مستنسخين تجربة المنظمة في لبنان وسوريا والأردن وغيرها.
فجاء الانقسام الداخلي حاملًا نموذج مقاومة تبنته غزة ونموذج تسليم بالواقع تبنته السلطة في الضفة.
وكان الاحتواء المؤقت سيد الموقف الذي تمارسه قيادات السلطة بدخولهم كمشارك في المواجهة ليجعل كل المشهد على مقاساتهم ثم تبدأ عملية الاستنزاف السياسي والإعلامي والتفريغ للفكرة من مضمونها.
ثم جاءت الحروب على غزة تلتها انتفاضة القدس تلتها هبة البوابات الإلكترونية ومعركة سيف القدس ونموذج نابلس وجنين وهكذا.
في الآونة الأخيرة تحاول قيادة السلطة التقرب مباشرة من بؤر المواجهة على أنها في صف المقاومين والشعب، بينما واقعا تعتقل وتفكك وتحدث فوضى كما كان مؤخرا من شهداء ومصابين ومعتقلين على يد أمن السلطة في نابلس.
اللافت هنا وعبر كل المحطات التي ذكرناها أعلاه تكرار التالي:
* تقوم قيادة السلطة بتمجيد المقاومة وثورة الشعب وتضخيم كلماتها والزج بأفرادها ليتسنى لهم أن يكونوا جزءًا من هذا المشهد .
* تبدأ الخطة الأمنية في سحب المشهد على مقاسات ما تريده السلطة وليس تماشيًا مع ما يريده الشعب.
* في ظل فشلهم في ذلك في حالات تبدأ عملية الشيطنة لأطراف هم أصلًا من بدأت هذه الثورة والمقاومة التي تمجدها السلطة مؤقتًا للاحتواء، فتعمل ماكنة الإعلام على أذهان الشعب وإرادة المجموعات المقاومة في إطار أن هناك اختراقات وأجندة خارجية وتدمير لاقتصاد البلد وفوضى وغيرها من المعادلات التي هي وتر حساس للمقاوم ولحياة المواطن في محاولة لضرب تلك الحالة.
* هكذا دومًا خطاب التعبئة ومن ثم الشتم والتخوين وأن ذلك عبثي، وهذه السياسة منذ الانتفاضة الأولى، وللتذكير كانوا يقولون إن عسكرة الانتفاضة إجرام والباصات انتحارية والشهداء حالات اجتماعية، وفي انتفاضة القدس تكرر المشهد وتمت محاولة شيطنة الشهداء والأسرى ليكون ذلك في إطار الاحتواء المؤقت، فإن نجح فبها وإن فشل فدمرها بحجج كثيرة.
* في مشهد غزة كانوا يقولون إنها معركتنا دون أي جهد، وفور الانتهاء تتحرك ماكنة الإفساد الإعلامية في إحباط الشعب وتشويه المقاومة، وهناك كانت الشماعة انقسام وتفرقة.
* في مشهد جنين ونابلس أرادوا الاحتواء المؤقت منذ أول يوم بالتزامن مع اعتقال المقاومين وتعذيبهم وتشويه سمعتهم والأدهى تمجيد المسؤولين المبعوثين للاحتواء للحالة، ما يؤكد أن تحركهم ممنهج وأن سياستهم لم تتغير من عقود ومفادها أن يستمروا شعارًا مع الشعب وميدانًا وعمليًّا تدميرًا لكل بؤرة مقاومة وتجهيزًا لملف الإحباط والتشويه حسب الحدث والمنطقة .
وبذلك ما زال الاحتلال يستفيد فعليا وبصورة كبيرة من أوسلو أن خلقت مجموعة منتفعة تتقن الدور وتبرز الجدل بحجة الآراء والأفكار وتنفذ المخطط بلا كلل أو ملل حتى لو كان على حساب الدم الفلسطيني أو الرواية الفلسطينية أو الحق المهدور، فأصلًا ما جاءت أوسلو اللعينة إلا لخلق لسان فلسطيني يغطي على إجرام الاحتلال اليومي وينفذ الاحتواء المؤقت لقتل الفكرة قبل أن تولد.