في صالة الانتظار صمت الجميع وعلامات الحزن تشكّلت على ملامحهم، فغياب أشرف عن الحدث العائلي كان صعبًا في حضور صغيرته التي أطلقت صرختها الأولى للحياة قبل ثمانية أشهر.
نعتتها والدتها بـ"شمس" أملًا في أن تشرق حرية والدها يومًا. تنطق بكلمة "بابا" دون أن تعرف ملامحه إذ يُغيِّب الاعتقال الإداري في سجون الاحتلال أشرف أبو عرام، منذ 16 شهرًا، ويخوض في سبيل إنهائه معركة الأمعاء الخاوية منذ أكثر من أسبوعين.
ينتمي أشرف (36 عامًا) إلى بلدة بيرزيت شمال مدينة رام الله، وهو حاصل على شهادة البكالوريوس في علم الاجتماع، ويعمل في مجال الضغط والمناصرة لحقوق الإنسان.
مشهد الاعتقال يتكرر بوحشيته كما في كل عمليات الاعتقال التي يُنفّذها جيش الاحتلال. تقول زوجته "نور" إنّ معاناة الأسرة مع اعتقالات "أشرف" بدأت بعد عام وأربعة أشهر من زواجه، حيث كان نجله البكر مجد رضيعًا.
كانت ليلة صيفية يوم اقتحمت قوات جيش الاحتلال المنزل عنوة بعد أن حطّمت الأقفال، ليستيقظوا على مشهد البنادق فوق رؤوسهم، "عاثت في البيت فسادًا، اعتدت على أشرف أمامي واقتادته للخارج، حينها قضى بالأسر 22 شهرًا، لم يُعايش طفولة مجد".
تضيف نور لصحيفة "فلسطين": "تكرَّر المشهد ثانية في صبيحة السابع من يونيو/ حزيران لعام 2021 إذ اقتحمت قوات الجيش مدججة بالسلاح المنزل، واعتقلت أشرف أمام أعين طفليه (مجد وقيس) بكل وحشية بعد أن اعتدت عليّ وعلى مجد وأشرف كذلك، وها قد أتت ابنته شمس إلى الدنيا دون وجوده".
لم تكن اعتقالات أشرف هذه هي الأولى، إذ سبق أن اعتُقل في عام 2019 حينما كان يعمل مسئولًا للضغط والمناصرة في شبكة المنظمات الأهلية، وعند عودته للبلاد بعد أداء مهمة في تايلاند اعتُقل عن الجسر دون أي تهمة، وحُوِّل للاعتقال الإداري.
تتابع نور: "لم ترَ شمس والدها منذ والدتها، ويقع على عاتقي مهمة تعريفها بوالدها الغائب من خلال الصور على الرغم من أنها غير كافية لنقل المشاعر، إضافة إلى التعامل مع أسئلة طفلَيَّ التي لا تنتهي عن مصير والدهما، يسألان عنه في كل المناسبات "بابا ليش محبوس؟ مش يا ماما الحرامي هو الي بيروح على السجن؟ راح يحضر عيد ميلادي؟ وقتيش بده يطلع؟" فالسؤال الأخير أكثرهم تعقيدًا كونه لا تهمة ولا موعد محدد للإفراج عنه".
مرّت أحد عشر عامًا على الميثاق الغليظ بين أشرف ونور بُنيت أساساته على المودة والرحمة، كما تقول، "فأشرف لم يكن زوجًا فقط بل كان صديقًا مخلصًا وأبًا عظيمًا، يشاركني في كل كبيرة وصغيرة سواء في مهام المنزل أو رعاية الأبناء".
تمضي إلى القول: "أنا اليوم بحاجة لدعمه الدائم ومساندته لي في رعاية الأولاد والاهتمام بشؤون المنزل في ظلّ وجود طفلة اعتمادها الأكبر عليّ، هذا عدا عن خوفه وحرصه الدائم على عائلته، وقلقه المتواصل على مشاعرنا وراحتنا النفسية، والسهرات الليلية لمشاركة أبنائنا لعب الإكسبوكس".
بعد غياب 16 شهرًا عن البيت بسبب اعتقاله الإداري دون تحديد موعد للإفراج عنه، يفتقد أبناؤها غياب والدهم في أنشطتهم المدرسية، "عدا عن دوره التربوي، فمجد اليوم بات في عمر حرج وهو بحاجة لوجود والده تربويًّا ونفسيًّا، أما قيس فهو طفل محبٌّ وعاطفيٌّ جدًّا أثّر في شخصيته غياب أشرف وجعله عصبيًّا ومتوترًا دائمًا".
وتلفت إلى أنّ ابنيها يفتقدان العلاقة القوية التي وطّدتها بينهما وبين والدهما بصفته صديقًا، "واليوم يتحمل مجد مسؤوليات أكبر من عمره، صار إيدي اليمين بالبيت".
صبر على أمل
تصمت ثوانٍ معدودة وتتبعها بتنهيدة طويلة ثم تكمل: "أما شمس ذات الثمانية أشهر فهي تنطق كلمة بابا دون أن تعرف ملامحه أو تشعر بحنانه، فغياب أشرف أثّر فيّ كثيرًا (...) فأنا بحاجة لدعمه الدائم ومساندته لي في رعاية الأولاد والاهتمام بشؤون المنزل في ظل وجود طفلة اعتمادها الأكبر عليّ، هذا عدا عن خوفه وحرصه الدائم على عائلته، وقلقه المتواصل على مشاعرنا وراحتنا النفسية، والسهرات الليلية لمشاركة أبنائنا لعب الإكسبوكس".
وضعت نور ابنتها "شمس" بعملية قيصرية وتصف تلك الأيام بأنها من أصعب اللحظات التي مرّت بها على مدار سنوات حياتها، "أصعب أمر ممكن أن تعيشه المرأة أن تضع مولودها وشريك حياتها ليس بجانبها، فهو الدعم والسند، وكان ذلك من أسوأ تجارب حياتي رغم الأهل والأقارب الذين حاولوا تقديم الدعم النفسي والعاطفي"، وِفق حديث نور.
وعندما أخبرت نور زوجها أنها ستنجب بنتًا فرح كثيرًا، "كان ينتظر قدومها بفارغ الصبر، وأعلمته في إحدى الزيارات أنها ستُسمّيها "شمس" أملًا أن تشرق على أشرف شمس الحرية، وشمس النور، وشمس الفرح والسعادة".
وخلال زياراتها الشهرية تستقي نور من أشرف العزيمة القوية والإرادة الصلبة، وقد اتخذ أشرف قرارًا صعبًا بخوض إضراب مفتوح عن الطعام سعيًا لنيل حريته، وينتظر الإفراج عنه بفارغ الصبر، خاصة أنّ الاحتلال مدّد اعتقاله الإداري للمرة الثالثة على التوالي، ليعيش بروح الأمل بعدم التجديد مرة أخرى.