- حلم الطفلة «عائشة الأسطل» ينبت على المستطيل الأخضر
- بـ « نادي السلام» ظريف الغرة يزيل الفجوة بين الرياضة وذوي الإعاقة
- على «دراجته الهوائية» أحمد يعبر "المستحيل" ويحلق في مضمار «الماراثون»
- سهير زقوت: فخورة بأني جزء من منظمة إنسانية أعادت الأمل وفتحت أبوابًا جديدة لهم
- خبيرة نفسية: الأهل والمؤسسات الحاضنة تساعدهم بالاندماج مع الشكل الجديد للجسد
- يبلغ عدد ذوي الإعاقة في قطاع غزة نحو 48 ألفًا أكثر من خمسهم من الأطفال
هَديرُ أصْوات اللّاعبين؛ يقيمُ حفلاً صاخبًا كجَوْقةٍ موسيقيَّة تعزفُ سمفونيَّةَ فرحٍ لا يتناغمُ إيقاعَهَا بين عازفيها "معتصم؛ أعطني الكرةَ، أركض بسرعةٍ، حنان.. انتبهي؛ خلفَكَ لاعبُ الخصم، إرْم الكرة على الشبكةِ".. تَتَعَالَى الهُتافاتُ والصَّفيرَ وَالأَيْدِي لِلْأَعْلَى: "أحسنتْ لقد سجَّلت هدفًا!"، ثُمَّ يَضْرِبُ حسام القلزين كرةَ السَّلَّةِ بِكِفَّةِ يَدِهِ على الأرض فتصدرَ صوتَ اهْتِزازٍ قَبْلَ أَنْ تَرْتَدَّ إليه يرافقها صَدَى الصَّوْتِ بِالصَّالَةِ المُغْلَقَةِ بـ "نادي السلام الرياضي" مِنْ اتِّجاهاتِها الأَرْبَعِ، فيكررُ المحاولةَ بوتيرةٍ أسرع، ثم يمسكُها في الهواءِ وَيَرْميها داخِلَ شَبَكَةِ كُرَةِ السَّلَّةِ (السكور) مُسَجِّلًا ضَرْبَةً ناجِحَةً لِتُغَرِّدِ أَنْغامِ الفَرَحِ مِنْ أَفْواهِ اللَّاعِبِينَ وَاَلْلاعِباتِأسفل النموذج.أسفل النموذج
يجلسُونَ على كراسٍ مُتَحركةٍ مخصَّصةٍ لهذهِ اللعبةِ، أمامَكَ شبابٌ وفتياتٌ من ذوي الإعَاقة تغمرهُمْ سعادة لا حدود لها، انقسمُوا لفريقين داخلَ الملعبِ، فَقَدوا جُزءًا عزيزًا من أجسادِهِم كشجرةٍ ماتَ غُصْنِها، فرَكلوا ذكرياتٍ مُؤلمةً وخرجُوا منْ قوقعةِ الإعاقة يركضُونَ نَحْوَ أحْلامٍ عالميةٍ، بمشهد يقفُ خلفَ كواليسهِ "صُنّاعُ أَمَلٍ" زرَعوا زهرَةَ فرَحٍ في حضْنِ الألم، وعوَّضُوا المَبْتُورين الرياضيين أجزاءَهُمْ المفقودةَ!، فنبت الأملُ مِنْ بَيْنِ رُكامِ أَلَمِ الإِعاقَةِ، يحيكون جُرْحَ الإِصابَةِ اَلْغائِرِ .
اهتزت كرة السلة مرة أخرى، معها تسارعت عجلات كراس متحركة يجلس عليها شبابٌ وفتيات انقسموا إلى فريقين يحاولون اصطياد الكرة، لكل واحدٍ منهم قصة مختلفة مع البتر والإعاقة، لكنهم الآن يخوضون مباراةً تجريبية استعدادً لخوضِ مباراةٍ حاسمة في دوري كرة السلة في قطاع غزة، وهم يطمحون بالظفر بالبطولة للمرة الرابعة.
خطف اللاعب حسام القلزين الكرة من يدي منافسه بالفريق الآخر مرة أخرى، وانطلق مسرعًا نحو ملعب الخصم كفهدٍ يركضُ بأقصى سرعةٍ؛ ثم توقف على عتبات دائرة الثلاثية، رفع يديه للأعلى حينما تعامدت نظراته على الشبكة، وأطلق لها العنان لتفارق يديه بعدما رماها، في ذهول أمسكت شيماء الكرة من أسفل الشباك وهي تنظر إليها تسقط بين ذراعيها بعدما نجح حسام في وضع الكرة في الشباك، معه ارتفعت صيحات فريقه، فرحًا بتسجيل النقاط.
"إرادة" غلبت الشلل
ذاك الرجل يتكئ على عُكّازين، يبدوان أقوى من ساقيه وهو يسير ببطءٍ شديد وكأنَّه يجرُّ حجارةً خلفه، حتى وضعَ عكازيه على الحائط وجلس على المقعد، ارتمت ابتسامةً إلى وجنتيه، سعيد وهو يرى صليلَ السعادة تدق أجراسها على ملامح اللاعبين أمامه.
يدعى ظريف الغرة أصيب بشللٍ بالأطراف السفلية عام 2000 خلال أحداث انتفاضة "الأقصى"، أقعدته ثلاث سنوات على كرسي متحرك، لكن "إرادته غلبت الشلل واستطاع المشي البطيء على عكازين"، نظر إلى الواقع حوله ولاحظ "فجوة كبيرة بين ذوي الإعاقة وممارسة الرياضية"، فبزغ نجم الفكرة بداخله وأسس "نادي السلام".
لكن لم يملك ظريف ورفاقه أي من مقومات النجاح سوى الإرادة، صورة من ذاكرة البداية تقفز إلى حديثه، ويتحرك صوته: "كانت أول فرحة لنا حينما حصلنا على طاولة تنس وكأننا امتلكنا الكون، ثم تطورنا وأصبحنا من الأندية المعروفة بفلسطين والشرق الأوسط، ولدينا صالة مغطاة هي الأولى من نوعها تخدم ذوي الإعاقة؛ كانت عبارة عن حلم أصبح واقعًا يضم 65 لاعبًا ولاعبةً".
بريق الفخر يتوهج من عينيه، وكأنَّ حبةَ القمح شقتْ ابتسامةً في سنابل وجنتيه؛ عباراتُ الفخر ترافق كلماته: "حصلنا في مرتين على تصنيف أفضل نادٍ يهتم بذوي الإعاقة على مستوى قطاع غزة ومرة على مستوى فلسطين، رياضيًا فزنا بلقب دوري كرة السلة ثلاث مرات متتالية ومرة للكأس وكأس السوبر".
فلسفة ظريف في العمل حقوقية وليست رياضية فقط، فـ "الرياضة حق من حقوق ذوي الإعاقة أقرها القانون الفلسطيني الأساسي والاتفاقيات الدولية للأشخاص ذوي الإعاقة".
"ثم اكتمل الحلم بإنشاء استراحة مواءمة لذوي الإعاقة على شاطئ البحر، بعدما كنا نعاني في الوصول للشاطئ، وهي من الاستراحات المعدودات على مستوى الشرق الأوسط تضم ملعبًا رياضيًا ومرافق، ومطعم، وممرات تخترق الرمال".
صناعة الأمل.. كم له وقع خاص في حياتك!؟ داهمه السعال، قبل أن تطأ عتبة البوح فمه مجيبًا: "أكرس حياتي ووقتي لذوي الإعاقة لتحقيق ذاتهم فأقضي معظم وقتي هنا وأتنقل معهم في كل التمارين والبطولات، وكلما حققت هذا الهدف كلما كنت أكثر ارتياحًا وهذا أجمل شيء، علما أنها حياة تطوعية بدون أي دخل مادي".
لكن خلف هذا الأمل هناك شركاء، يلقي نظرة أكثر قربًا وهو يعيد الفضل لأصحابه قائلا: "لا يمكن الحديث عن صناعة الأمل دون ذكر دور اللجنة الدولية للصليب الأحمر، فهي شريكة بكل نجاح، وبكل ضحكة مرسومة على هؤلاء الشباب، غيرت واقع الرياضة على الصعيد اللوجستي والفني، ففي نادي السلام وفرت لنا 25 كرسيًا متحركًا وهي باهظة الثمن لا نستطيع توفيرها، وقامت ببناء أرضية الصالة، وبتشغيل استراحة المواءمة، وتوفير مشاريع للعشرات لهم خلال مشاريع "التمكين الاقتصادي" التي غيرت حياتهم، إضافة للتدريب الفني باستقدام مدرب أمريكي تطور أداء مدربينا الفني ولذلك بتنا أفضل نادٍ في كرة السلة".
أطفال يركلون الألم
أطلق المدرب صافرته من منتصف الملعب؛ ركض الأطفال ذكورًا وإناثًا نحوه، كل منهم يتكئ على عكاز، وعلى حكاية مختلفة مع الإصابة، لكنهم هنا متشابهون في المعاناة، يهربون من تلك الجراح المغروسة في قلوبهم، رفضوا أن تتوقف الحياة عند ذاك الحدث، أمامك صف من الأطفال مبتوري الأطراف، يرتدون زيًّا رياضيًّا برتقاليًّا وأزرقًا، يقفون فوق أرضية ملعب خماسي معشب بمحافظة الوسطى، اشتركوا في معاناة واحدة، رغم اختلاف أماكن البتر من طفل لآخر.
في ركن الملعب، عهد حمدان (11 عاما) التي كانت بصعوبة تستطيع السير بعكازين بلا طرف حينما قدمت هنا، الآن تمر من بين "الأقماع الرياضية" برشاقة كفراشة تحلق بين الأزهار تملأ الابتسامة أركان وجهها.
ينفتح برعم الابتسامة بين شفتيها، تقضم أحاديث قلبها وتخبئها في صوتها، بعدما التقطت أنفاسها تشاركك فرحتها: "سعيدة أني أصبحت أستطيع المشي بلا طرف، أشعر أني خفيفة الحركة، أصبحت أتنقل بخفة ولا أخجل من كوني مبتورة الساق.
بعد دقائق تجمع الأطفال بحلقةٍ دائريةٍ على الأرض لأخذ قسط من الراحة، الطفلة ذات العينين الزرقاوين كلون قميصها الرياضي وشعرها الذهبي عائشة الأسطل (12 عامًا) تمد قدميها على الأرض، ينغص هذا الجمال أمامك بتر يدها اليسرى، بكلمات طفولية عفوية تخبرك: "التدريب كان جميلا ورائعًا، وأطمح بأن أصبح لاعبة أمثل فلسطين في البطولات العربية والدولية".
والدتها التي تراقبها من المدرجات وتحرص على مرافقتها في كل تمرين وبطولة، تحرك أحبالها الصوتية بينما ترقد على شفتيها ابتسامة: "وجودي معها يحفزها بأن تستطيع ممارسة حياتها الطبيعية وتلعب مع الاطفال؛ وأن البتر ليس عائقًا لها فتشعر بالسعادة وأننا مهتمون بها، فتزيد ثقتها بنفسها".
تحاول والدة عائشة وتدعى فاطمة الأسطل أن تزرع وردة الأمل بداخل طفلتها ليفوح عبيرها بعد أن حجب ظلام الإصابة شمس الابتسامة عن شفتيها فترة طويلة بعد أن ولدت مبتورة اليد.
أحلام تحلق فوق الدراجة
انطلق المتسابقون على مضمار السباق يركبون الدراجات الهوائية ويتحدون إعاقاتهم يناضلون من أجل الجزء المفقود من حياتهم، في الصورة تتسابق عجلات دراجة أحمد أبو نار (34 عامًا)، وهي تتحرك مع قدميه كأنه يركب على ظهر خيل يتخطى المتسابق واحدًا تلو الآخر نحو "خط النهاية"، قاطعًا مسافة عشرة كيلو مترات.
قبل ملامسة الخط فرد ذراعيه منتفض الصدر للأمام منتشيًا بالانتصار والظفر بالمركز الثاني في ماراثون للدراجات الهوائية نظمته اللجنة الدولية للصليب الأحمر واللجنة البرلمبية لألعاب القوى، ثم اعتلى منصة التكريم ووضعت قلادة زينت رقبته فرفع الكأس للأعلى كانت فرحته تلامس سقف السماء، وهو يطلق تنهيدة النصر وكأنه يقف على قمة جبل!.
تزيل ابتسامته أقفال الصمت عن صوته ويأخذك مستذكرًا لحظات فوزه بسباق الماراثون وهو يستعد مع رفاق للانطلاق بجولة رياضية بالدراجات بمحافظة الوسطى: "اشتركت بسباقين لفئة البتر الأول لمسافة خمسة كيلو مترات وحصلت على المركز الثاني، والثاني لعشرة كيلو مترات.. كانت من أسعد اللحظات".
تنسدلُ كل خصال الفرح على ملامحه، بعدما هدأت انقباضات نبضات قلبه المتسارعة، خرج عن صمته ممرًا يديه على قطرات عرق بللت ناصيته، بعد انتهاء جولتهم الرياضية في السماء انتهت مناوبة الشمس وبدأت بسحب اشعتها؛ اللون الوردي يغطي الأفق، أحمد الذي أصيب بالتظاهرات السلمية شرق غزة في 14 مايو/ أيار 2018 نتج عنها بتر ساقه يحررُ شفتيه: "انضمامي للفريق شكل نقطة فارقة في حياتي أعادت إلي الأمل، فمنحتني طاقة وقوة للنهوض بعدما اسقطتني الإصابة، -والآن!- .. أقضي معظم حياتي على الدراجة الهوائية، نخرج في جولتنا الرياضية ونحن في غاية الاستمتاع إلى البحر والأهم أصبح لدي حلم كبير".
بطرف يشابه قدمه غير المبتورة في ليونة الحركة، يمارس أحمد حياة "شبه طبيعية!"، حتى باتت قيادة الدراجة الهوائية - التي كانت أشبه بمستحيل لشخص فقد قدمه – سهلةً وأصبحت الدراجة "جزءً من حياته" ينطلق بها كفارسٍ انتصر بمعركته النفسية الداخلية، وتفوق بالمنافسات الرياضية المحلية ويطمح بالانتصار في المنافسات العالمية.
ووفق معطيات الجهاز المركزي للإحصاء (حكومي) لعام 2019، يبلغ عدد الأفراد ذوي الإعاقة في فلسطين نحو 93 ألفا، ويشكلون 2.1 بالمائة من مجمل السكان، فيما يبلغ عدد ذوي الإعاقة في قطاع غزة نحو 48 ألفًا، أكثر من خمسهم من الأطفال، بينما تشير التقديرات إلى أن أعداد ذوي البتر تبلغ ألف شخص.
أبواب جديدة
العمل الإنساني في خدمة ذوي الإعاقة ترك أثرًا كبيرًا في قلب سهير زقوت، وهي المتحدثة باسم اللجنة الدولية للصليب الأحمر في قطاع غزة: "من خلال عملي فأنا شاهدة على تصميم الأشخاص من ذوي الإعاقة، على تحويل الصعاب التي تعترضهم لفرص جديدة في الحياة، وهذا يمنحنا قوة في الاستمرار بدعمهم".
مشاهد كثيرة تلتصق بذاكرتها، تشد واحدًا منها كمن تسحب دلوًا من عمق بئر: "في يوم سباق الدراجات الهوائية رأيت الفخر في عيونهم، رأيت العزيمة التي لا تنضب، فلا يمكن أن ترى كل هذا ولا تنتقل إليك تلك الطاقة الهدارة والاحساس بالفخر بأنك جزء من منظمة إنسانية أعادت الأمل لهؤلاء وأحدثت فرقًا في حياتهم وساهمت في فتح أبواب جديدة لهم".
تعمل اللجنة الدولية في مناطق النزاعات المسلحة وأوضاع العنف وتسعى للتخفيف من آثارها على المتأثرين بها، في الأراضي الفلسطينية المحتلة تعمل اللجنة منذ عام 1967، وتولي اهتماما خاصة في دعم ذوي الإعاقة بهدف إعادة دمجهم بالمجتمع من جديد.
ويتمثل هذا الدعم، وفق سهير زقوت، في التأهيل الجسدي أولا، بمركز الأطراف الصناعية الذي تدعمه اللجنة الدولية منذ العام 2007، بالإضافة لجلسات الدعم النفسي والمشاريع الصغيرة التي تمكنهم من كسب عيشهم بكرامة.
في العام 2015 بدأت اللجنة الدولية برعاية الدمج المجتمعي للأشخاص من ذوي الإعاقة تماشيا مع حقوقهم العالمية في الدمج في كافة مناحي الحياة اقتصاديًا واجتماعيًا وثقافيًا، "نفخر اليوم بوجود 200 لاعب يشاركون في مباريات كرة السلة للكراسي المتحركة، 80 لاعبا في كرة القدم لذوي البتر و 60 لاعبة ولاعبا يشاركون في تنس الطاولة و 35 درّاجا وهناك أيضا لاعبين انضموا للألعاب القوى" تقول زقوت.
"يواجه ذوو الإعاقة صعوبات جمة في حياتهم، أولها نظرة الشفقة من الجميع، وأنهم أصبحوا بشكل وهيئة جديدة، يعانون من اضطرابات ما بعد الصدمة، الحزن، الاكتئاب، والقلق، والفقد، والعزلة، وأحيانا الاغتراب، ويمثل الأهل والأصدقاء والمؤسسات الإنسانية المحتضنة الحاضنة الأهم والداعم الأقوى لهم، تساعدهم بالاندماج مع الشكل الجديد للجسد وإعطائهم الدعمي المعنوي وتمكينهم اقتصاديا" والكلام للخبيرة في المجال النفسي والتربوي د. ختام أبو عودة.