تشهد الضفة الغربية المحتلة تصاعدًا ملحوظًا في العمليات الفدائية الجريئة التي ينفذها المقاومون ضد قوات الاحتلال والمستوطنين، على الرغم من القبضة الأمنية المشددة التي تمارس هناك، من خلال التعاون الوثيق بين الأجهزة الأمنية الإسرائيلية ونظيرتها التابعة للسلطة في الضفة في إطار ما يعرف بالتنسيق الأمني.
ففي توقيت مفاجئ للاحتلال الإسرائيلي المراهنين على قوته وجبروته بتعزيزات إضافية لقواته في مدن وقرى الضفة الغربية المحتلة لسحق المقاومة وكسر أمواجها، جاءت العملية الفدائية النوعية في شعفاط بالقدس المحتلة، أسفرت عن مقتل مجندة إسرائيلية وجرح جنود آخرين، ما يدلل على أن المقاومة لا تزال في زخمها وأن عوامل الانفجار باتت أكثر حضورًا من عوامل الاحتواء، فقد تتحول في أي لحظة الى انتفاضة ثالثة تحرق الأخضر واليابس.
الملاحظ أن هذه العملية الفدائية النوعية تعطي رسائل في اتجاهات عديدة:
1- لكون أن هذه العملية حدثت مباشرة في القدس المحتلة فهي رسالة غضب لما يحدث في المدينة من تهويد والاستيطان وتغير معالمها العربية، إضافة لاقتحامات المستوطنين للمسجد الأقصى المبارك والعبث بقدسيته.
2- لأن جذوة المقاومة لا تزال تشتعل في الضفة الغربية رغم التنسيق الأمني ووجود الاحتلال وملاحقة المقاومين من قبل سلطات الاحتلال والسلطة الفلسطينية على حد سواء، بأن هذا النهج الذي استخدمه الفدائيون في هذه العمليات هو صورة مصغرة لحرب الاستنزاف.
3- تؤكد للاحتلال أن محاولة سيطرته على الضفة الغربية عبر الاستيطان وتهويده للقدس المحتلة؛ لن يكون لقمة سائغة، وأن محاولاته لفرض ما يسمى السلام الاقتصادي في الضفة مقابل الهدوء والتسليم بالأمر الواقع قد فشلت، بدليل تصاعد تلك العمليات الفدائية في كل مكان وزمان.
4- أن العملية تأتي بعد أن اتخذت سلطات الاحتلال إجراءات أمنية أكثر تشددًا في إثر العمليات التي شهدتها مدن الضفة الغربية المحتلة في الفترة الماضية، ورغم التعزيزات العسكرية والقيود التي فرضتها على حركة المواطنين.
5- أن العملية تؤطر لمرحلة جديدة في إشعال جبهة كانت تتصف بالهدوء بالنسبة للحكومة الإسرائيلية خلال السنوات العشر الأخيرة، وتعدها السلطة الفلسطينية واحة خصبة للتعاون الأمني مع الاحتلال دون منازع.
6- الرسالة الأخيرة تقول للسلطة إن سياساتها الثقافية والاقتصادية التي تهدف لصرف الجماهير على واجبها الوطني تجاه ما يقترفه الاحتلال من جرائم في الضفة، قد منيت بالفشل، فالشريكان في التعاون والتنسيق الأمني قد تبنيا سياسة تجريف فكري وسياسة إغراق اقتصادي للجماهير في الضفة منذ أحداث حزيران 2007، وعمل على شيطنة المقاومة وكي الوعي، وبدا أن هذه السياسة تحقق نجاحات، لكن هذه العمليات الفدائية جاءت لتؤكد فشل هذه السياسة.
اليوم بعد هذه العملية أجمع المحللون الإسرائيليون على وجود عجز إسرائيلي على المستوى الأمني والعسكري (التقني والاستخباراتي) عن توقع حصول عملية شعفاط وقبلها بأيام قليلة عملية الجلمة للمنفذين الفدائيين الشهيد أحمد وعبد الرحمن عابد، إن كان لناحية عدم امتلاك أي إنذار مبكر بالإعداد لها وتوقيت تنفيذها، أو كان لناحية سقوط كل الفرضيات التي كانت تقصر العمر الافتراضي لتنفيذ مثل هذه العمليات.
ويستند جيش الاحتلال الإسرائيلي إلى روايته التي تشير إلى أن العمليات الأخيرة في الضفة الغربية تندرج في سياق العمليات الفردية وليس العمليات المنظمة، أي إن من قام بهذه العمليات تحرك لدوافع وطنية في داخله، وهذه نقطة حساسة بالنسبة لأجهزة أمن الاحتلال، لأنها لا تستطيع السيطرة على مشاعر 2.5 مليون مواطن يقطنون في الضفة الغربية.
فمنفذو العمليات الفدائية لا ينتظرون إذنًا أو قرارًا لتنفيذ عملياتهم، فهم الذين يتخذون القرار بأنفسهم، ويقومون باستطلاع أهدافهم، وتحديد توقيت هجماتهم، الأمر الذي يجعل الاحتلال في حالة من التخبط الأمني والضياع وفقدان الأعصاب، في كل مرة تحصل فيها عملية فدائية ناجحة في تحقيق أهدافها، وتؤدي إلى هز الأمن الصهيوني، وتوجيه ضربة لمنظومة إجراءاته الاحترازية، وتكشف كم أنه رغم ما يمتلكه الاحتلال من قدرات أمنية وعسكرية وأجهزة متطورة فإنه غير قادر على ضمان وحماية أمن جنوده، ولا أمن مستوطنيه المحتلين لأراض الفلسطينيين.
أعتقد أن أي خيار تصعيدي قد يلجأ إليه الاحتلال الإسرائيلي ضد المقاومين في الضفة المحتلة، خاصة باستخدامه سلاح الطيران الجوي كما يفعل في غزة بالقصف والتدمير، فلن يشكّل نهاية القصّة، بل قد يكون بداية تصعيد جديد أشمل وأعم، لا يعرف مآلاته ونتائجه، التي ستكون بطبيعة الحال وخيمة، وإذا كان الاحتلال قد وجد نفسه أمام عملية عسكرية في الضفة الغربية في عام 2002، فإن هذا الخيار يبدو مكلفًا اليوم، إذ تترصد فصائل المقاومة في قطاع غزة الفرصة المناسبة للدخول في المعركة، ومنع استفراده بأي ساحة فلسطينية.