رغم أنّ المسافة الفاصلة بين منزل الناشط المقدسي فخري أبو دياب في حي سلوان جنوب المسجد الأقصى لا تزيد على 400 مترٍ ولا يحتاج إلا إلى عدة دقائق مشيًا على الأقدام حتى يكون قد حطت قدماه داخل المسجد المبارك، إلا أنه يضطر لقطع شوارع وطرق التفافية تزيد على 15 كيلومترًا للوصول للمسجد خلال ما يسمى بموسم "الأعياد اليهودية".
حتى يصل إلى الأقصى بالطرق الالتفافية، يستقل أبو دياب سيارة من سلوان نحو جبل المكبر مرورًا بحي "الطالبية" وصولًا إلى الشارع الرابط بين القدس وبيت لحم، ثم العودة باتجاه الشمال لمنطقة باب الخليل، ثم يتجه 2كم لمقبرة "مأمن الله" مرورًا بحي "المصرارة" الذي يقع خارج أسوار البلدة القديمة، قبل أن يصل إلى باب العامود.
لا يكتفي الاحتلال بالتضييق على المصلين والمرابطين خلال موسم "الأعياد اليهودية" التي تستمر ثلاثة أسابيع تبدأ برأس "السنة العبرية" التي تستمر يومين مرورًا بـ"يوم الغفران" في الرابع من أكتوبر/ تشرين أول الجاري، وانتهاء بـ"عيد العُرُش"، بل يفرض عقوبات جماعية على الفلسطينيين في القدس.
أيامٌ مُرَّة يعيشها المقدسيون، يشلّ فيها الاحتلال كلّ مفاصل الحياة، متسببًا بمعاناة إنسانية كبيرة لأصحاب المحلات التجارية، والمواطنين الذين يتعطلون عن أعمالهم، ولطلبة الجامعات والمدارس، خاصةً في أوقات ما يسمى "عيد العُرُش" إذ يستمرُّ الإغلاق من 10 حتى 17 أكتوبر المقبل، ويفرض الاحتلال خلاله إغلاقًا شاملًا، يطال فيه حتى مداخل الأحياء.
تفريغ البلدة القديمة
يقرّب أبو دياب مجهر المعاناة أكثر في حديثه لصحيفة "فلسطين" بقوله إنه قبل أيام، رغم أنّ اقتحامات المستوطنين استمرت حتى ساعات الصباح وانتهت، إلا أنّ إغلاق بلدة سلوان استمر حتى ساعات المساء، وهذا يقتل ويخنق الاقتصاد، فنحن نتحدث عن إغلاقات تستمر عدة أيام؛ فمن لديه بضاعة تفسد، ويكون هناك كساد في السوق، مؤكدًا أنّ خنق الاقتصاد هدف من أهداف الاحتلال لتفريغ البلدة القديمة التي تُعدُّ حاضنة المسجد الأقصى.
ورغم أنّ الطرق الالتفافية متاحة، لكنّ تزاحم المقدسيين فيها يخلق أزمة مرورية أخرى، تزيد من معاناتهم.
اقرأ أيضا: الاحتلال يتذرع بالأعياد اليهودية للتضييق على أهل القدس
ويتخوف أبو دياب كغيره من المقدسيين من إجراءات الاحتلال في مواسم الأعياد، لكنّ المعاناة الأكبر تكمن في "عيد العُرُش" إذ "نعيش معاناة في كل مناحي الحياة، في الأعياد الأخرى تكون الطرق الالتفافية متاحة أمامك، لكن في هذا "العيد" بالذات تُغلَق الشوارع ومداخل الأحياء، ويأتي المستوطنون من كلّ فلسطين المحتلة عبر مئات الحافلات التي تصطفُّ في الطرقات، يتخلّلها اعتداءات على المقدسيين، فيصبح الخروج من المنزل أمرًا صعبًا، حتى يكاد يكون من المستحيل إدخال سيارة إسعاف".
صالح شويكي (70 عامًا) تاجر مقدسي يملك محلًّا قرب باب العامود، أغلق محله منذ يومين بسبب صعوبة وصول الفلسطينيين من بقية أحياء القدس والضفة الغربية والداخل المحتل للبلدة القديمة، ما يعني انعدام الحركة الشرائية.
يقول شويكي لصحيفة "فلسطين": "عن نفسي ومثلي العشرات من التجار، نفتح محالنا التجارية للرباط لا أكثر ولا أقل، وليس قضية اعتماد على المحال من أجل العيش، فأتناوب بين الصلاة في المسجد الأقصى ثم العودة لفتح المحل في كل الصلوات، لإثبات تواجدنا".
خلال موسم الأعياد يُغلق المسنُّ المقدسي محله من تلقاء نفسه أمام انعدام الشراء، ويتحول لمرابط داخل المسجد الأقصى، مدركًا أهمية التواجد داخل الحرم والتصدي لاقتحامات المستوطنين، في صوته حب وانتماء متجذّر ورثه عن والده كما ورث المحل منذ عشرات السنين "هناك المهم والأهم، الصلاة في الأقصى بالنسبة لي هي الأهم من أيّ شيء آخر خلال الأعياد اليهودية".
حصل شويكي على شهادة الدكتوراة في القانون، لكنه فضّل الرباط في الأقصى وعلى أبوابه "خير من أموال الدنيا".
ويرى الباحث المقدسي ناصر الهدمي أنّ التضييق الإسرائيلي يندرج تحت صراع "السيادة" على القدس والمسجد الأقصى، إذ يحاول الاحتلال إظهار سيطرته خلال موسم "الأعياد اليهودية".
ويقول الهدمي لصحيفة "فلسطين": إنّ الاحتلال يستطيع أن يقوم بما يفعله دون المساس بالحياة الطبيعية للمقدسيين بشكلٍ خاص، لكنه يريد إظهار سيطرته على كل تفاصيل الحياة في المدينة، خاصة بعد الاعتراف الأمريكي بها عاصمة مزعومة له، وفي الوقت نفسه لا يستوعب أنه يفقد السيطرة عليها على أرض الواقع، حينما لا يستطيع المستوطن التجول إلا في مناطق محدودة وتحت حماية أمنية مشددة.
ويعتقد الباحث المقدسي أنّ كلّ هذه الهجمة الإسرائيلية تعبّر عن نقص في الشعور بالسيطرة، وهذا يُفسّر حجم التنكيل والتعذيب ضد المقدسيين، إضافة إلى التأثير الاقتصادي والاجتماعي وتعطيل الأسواق، وعدم قدرة المقدسيين للوصول إليها، وتركهم غارقين في أزمات اقتصادية ومرورية.