فلسطين أون لاين

بعد "عامين" فقط صار واحد من بين أفضل مئة مصور عربي

​"الحب مهنةُ صعبة" توقيعٌ ينقشه كريم خلف على صورٍ فريدة

...
كريم خلف (أرشيف)
غزة - هديل عطا الله

لطالما دغدغت تلك الساحرةٌ التي تطير عبر مكنستها في السماء خياله؛ ولطالما حدَّث نفسه: "يـــاه لو أن "الساحرة الطيبة" تمر يوماً إلى جانب "قرص ضياء" اسمه القمر ويراهما كل الناس".

حين يضع المهندس كريم خلف يده على قلبه الذي ينبض بحبٍ من طراز عجيب؛ ترتسم ابتسامة غريبة؛ فلم يتوقع أبداً أنه بوقوعه في حب الكاميرا يستبق الخيرات حتى يرصد جمالاً لا يعرفه كثر؛ لم يهوى "القمرة" في صغره؛ بل جاء ذلك الحب متأخراً قليلاً.. تحديداً قبل أربع سنوات وُلدت حكاية صالحةٌ للإلهام.

يعمل خلف (35عام) في "برمجة الحاسوب" في شركة مهمة تقع في الداخل المحتل؛ ويحب الاستكشاف أكثر من أي شىءٍ آخر ويفخر به كــ رفيق في الرحلة.

واللافت في تجربة هوايته أنه خلال سنوات لا تتجاوز أصابع اليد الواحدة؛ صار بوسعه إتقان عدة أنواع في التصوير بدءاً بالطبيعة؛ ومروراً بالمايكرو - وهو التصوير عن قرب وغالباً يكون للأجسام الصغيرة جداً- ؛ وكذلك القمر وليس انتهاءًا بمجسمات الأطعمة؛ مقدماً للمتذوقين صوراً عالية الاحتراف؛ بعيداً عن طرَق الأبواب المألوفة كــ "تصوير الأفراح".

خيال و تنوع يُلهبان الشغف

في بادىء الأمر اقتنى كاميرا عادية واستخدمها في توثيق الرحلات؛ إلى أن حانت اللحظة التي قرر فيها شراء كاميرا احترافية؛ ومنذ ذلك الوقت انكبّ على التعلم و اكتساب المعرفة من خلال الانترنت بشكلٍ مكثف ومتواصل.

من حيث يسكن في قرية مقيبلة في مرج ابن عامر؛ يستهل خلف حديثه مع "فلسطين" بالقول: "في البدايات لم تخرج الصور كما أود؛ وشيئاً فشيئاً شعرت برغبةٍ عارمة في التعلم أكثر؛ وهكذا بدأت أنتبه أن هذه الهواية تتغلغل بداخلي؛ ثم قررتُ أن أدخل عالم الصور؛ فبحثت عن الكاميرا المناسبة.. كنت أتعلم بشكلٍ شبه يومي عبر الانترنت؛ أخرج ما بين ثلاث إلى أربع مراتٍ أسبوعياً للتصوير؛ ثم أنشر صوري على (فيس بوك) فتحظى بإعجاب المتابعين؛ وأصدقك القول أني حين أنظر اليوم لتلك الأعمال أراها ضعيفة جداً".

من ذاق شغف الهواية فإنه يستشعر مدَدها الذي يجعله قادراً على مجابهة كل التحديات في سبيل الوصول إلى ما يريد؛ وكان الجمع بين عدة فئات في التصوير خياراً أثار التحدي لديه فهرعَ نحوه حباً وطواعية.

بثقة هادئة يوضح هذا: "لكل نوعٍ من التصوير عالمه وتحدياته وتقنياته التي تتطلب جهداً لاكتسابها من أجل الخروج بصور احترافية؛ بطبيعة الحال لم أتعلمها جميعها بين يوم وليلة؛ بل تطلّب ذلك مني إرادةً ومثابرة لا حدود لها؛ وقد برمجتُ نفسي على التعلم بما يحفظ لي طاقتي وشغفي؛ ففي يوم أتعلم المايكرو وفي يوم آخر أولّي وجهتي نحو أحضان الطبيعة؛ ويوم ثالث أركب ظهر القمر".

ويعترف كريم مستعيناً بـــ "ضحكة " يفطن المبدعون لمغزاها ": "لو أن التصوير نوع واحد لكنت بعت الكاميرا منذ زمن؛ التنوع يروي الشغف أكثر".

ويضيف: "الهواية بالنسبة لي تفريغ النفسي من ضغوطات الحياة؛ فقبل التصوير تملكتني هواية صنع الصندوق الخاص بالحاسوب؛ معتمداً في ذلك على تصميمٍ مختلف من مخيلتي وبشكلٍ يدوي؛ وبالفعل فزت في مسابقة مهمة حينها؛ وكنت العربي الوحيد من بين المشاركين؛ آمنت بشدة أن هناك رابط بين الهوايات بالنسبة لي؛ إنه الخيال الذي يعمل لدي بقوة".

ويبدو دقيقاً وصريحاً في الآن نفسه وهو يكمل حديثه: "ليست لدي مكتبة ولا حتى مولعاً بالأدب والأشعار؛ إنما اهتم بمطالعة المحتوى التقني؛ والقراءة في جوانب كهذه تصقل لدي التعلم الذاتي؛ لذا تجديني مشدوداً إلى موضوعات حيوية؛ و الجانب المغري أني استطيع صنع شيئاً من الصفر فيها".

الإبهار يلزمه صبر

من يطلّع بإمعان على صور ضيفنا الذي تشرف مؤخراً بأن تنشر له مجلة (ناشيونال جيوغرافيك العربية) مقالاً له بعنوان "في ظلال القمر"؛ يلاحظ أن التصوير فتحَ له آفاقاً رحبة؛ بعد أن جاب أجمل بقاع فلسطين من أقصى الشمال إلى الجنوب؛ فهذه "بئر السبع" تبدو جنة فيما نعرف أنها ليست سوى صحراء؛ وهذه درب التبانة تبدو وكأنها ليلة من "ألف ليلةٍ" وهذا وادي الرام تبدو قشرته وكأنه كوكب المريخ؛ وهذه رأس نحلة تم التقاطها بتصويرٍ مجهري دقيق؛ أما صور القمر فهي حكاية ساحرة من "فنتازيا" الأمهات والجدات.

ويؤكد أن الوصول للاحتراف لم يتأتي له بدون تجدد المعرفة واكتساب العلم؛ وهذا هو "مصدر القوة" بالنسبة له ليس في التصوير فحسب بل في كل مجالات الحياة؛ مضيفاً:" أن تعرف أكثر يعني أن تكون لديك القوه لتحقيق أهدافك مهما بدت صعبة".

ولا يكف عن الاستعانة بالمواقع الالكترونية التي ترصد له أماكن بطابع معين كي يُلم بالمعلومات الكافية ووفقاً لها يقرر أسلوب التصوير؛ كأن يختار بقعة لتفتح الأزهار البرية؛ أو للشلالات أو للأماكن الأثرية؛ "اختيار التوقيت الدقيق واستخدام تقنية تصوير مناسبة؛ ساعدني في أن تظهر الصور مبهرة وكأنها في دولة أوروبية؛ كصورة التقطتها ذات مرة لبحيرة وشلال وقت الغروب".

ويؤمن أنه دون الصبر والمثابرة لن يفلح المرء في شيء؛ و يخبر "فلسطين" أنه ذات مرة عاد للمكان نفسه ثلاث مرات كي يظفر بأروع صورة ممكنة؛ في كل مرة كانت تستغرق منه ست ساعات؛ في كل مرة عاد بحماس أكبر كي يتعلم من أخطائه السابقة دون أن يفقد شغفه..هذا المقطع من تجربته تدفق من أعماقه بأعلى درجات نقائه.

لا يُضيع الله تعباً

المتابع لأخبار المصورين المحترفين لا بد وأنه يعرف بشأن ضجة "صور القمر" التي قام بالتقاطها مع عناصر أخرى مثل شجرة أو فارس على حصانه؛ لتلك التجربة حكاية بحد ذاتها يرويها لنا كريم: " استلهمت الفكرة من مصور سويسري كان قد صوّر القمر مع راكب دراجة هوائية؛ شدتني تلك الصورة بشكلٍ رهيب؛ وفتحت أمامي عالماً فسيحاً من الأفكار والتخيلات؛ بدأت أبحث وأقرأ وأجرب؛ وعلى مدار 11 شهر قبل عام أخذت أصور القمر في كل شهر بفكرةٍ جديدة وتحديات جديدة؛ حتى أني صورت الكواليس فيديو؛ وإذ بالبعض يزعمون أن الفيديو مفبرك ويشككون بمصداقية صوري".

ويتابع شرح نقطة محورية: "اعتاد المصورون على دمج صور القمر مع عناصر مثل أشخاص وبنايات؛ وفي الغالب يدمجون أكثر من صورة عن طريق الفوتوشوب، تصوير القمر مع عناصر حقيقية هو بمثابة تحدي كبير للمصور لأن اخراج مثل هذه الصور يحتاج الى علم ومعرفه في عدة مجالات؛ بالإضافة الى تخطيط مسبق ودقيق لكل صوره؛ ناهيك عن استخدام برامج خاصة؛ وبلا مبالغة كل صورة هي بمثابة مشروع تبدأ في مخيلتي وتنتهي على شاشة حاسوبي من دون تعديل أو إضافة".

(أليس غريباً أن تكون مشدوداً إلى هذا الحد نحو مجال يتطلب نفساً "أطول من الطويل")؛ بدا السؤال متوقعاً لذا لم يتوقف لــ ثانية لأجل صياغة الإجابة: "أحب جداً تصوير المشاهد غير المكررة على صعيد الفكرة لأن هذا ما يمنح الصورة القوة والاختلاف؛ لذا ألجأ لمخيلتي في تكوين الصورة؛ دون الحاجه إلى تقليد صور موجودة".

كان سعيداً بنجاحه كسعادة البشر حين ينعمون برؤية جارهم البهي "القمر"؛ يتنهد بإرتياح؛ وفي هذه اللحظة بدا وكأنه يلتقط صورة لمشاعره على طريقة "المايكرو"؛ يقول: "حمداً لله.. نجاحي لم يأتي من فراغ؛ فخلال تلك الفترة لم أتوقف عن اكتشاف الجديد والغريب حول أسباب الظواهر الطبيعية المرتبطة بالقمر؛ وفي كل مرة وجهت فيها عدستي إلى هذا الجُرم السماوي البديع، تولد التساؤلات من كل صوب، فألجأ إلى منتديات الفضاء الإلكتروني المتخصصة في علوم الفلك وتقنيات قياس المساحات بحثاً عن إجابة"؛ مقدراً جهد كل الأشخاص الذين ساعدوه في تنفيذ مشروعه القمري.

و جرت العادة أن يعرض كريم صوره على مختصين بغرض التقييم؛ فلا ينشرها مباشرة؛ بل أولاً يتحقق من خلوها من الأخطاء بقدر المستطاع؛ "أعرضها على مصور أو اثنين أو ثلاثة؛ وكل منهم يبدي ملاحظة تخدم قوة الصورة؛ وأتقبل النقد إن رأيته في محله؛ كوني لا أعرضها بغرض تلقي المديح؛ ومن ثم أنشرها كي أضمن الحفاظ على مستوى أفضل بحيث لا تكون الصورة القادمة أضعف من التي قبلها".

بعد نشر صور القمر أزداد عدد متابعيه على مواقع التواصل الاجتماعي بشكل ملحوظ؛ لا سيما من المصورين؛ مما حفزّه لالتقاط صور أكثر صعوبة أو حتى لا تخطر على بال مُستمراً في تقديم الأفضل.

أما حين بادرت "ناشيونال جيوغرافيك" بالتواصل معه فلم تسعه الفرحة؛ يعلق على هذا الحدث : "لم أحاول يوماً السعي وراء الإعلام كي أنال الشهرة بالحديث عن إنجازاتي ؛ وأتذكر أني قبل ثلاثة أشهر ذهبت لمعرض؛ فإذ بالمصورين اللي هم اصدقائي على فيسبوك يمرون عني ولا أحد منهم يعرفني؛ بعدها عرّفت عن نفسي؛ وأقبل الجميع يسلم علي وكأنني عريس".

يبتسم بطمأنينة متابعاً :"كنت موقناً أن الله لن يضيع تعبي؛ وها أنا بفضل ربي أقطف ثمار جهدي بعد أن بادرت بمجلةٍ بهذه المكانة بمراسلتي كي أكتب لديها عن تجربتي؛ إنها فرحة لا توصف".

(أي درسٍ تعلمت من كل هذا؟) لا يتردد في الجواب: "أدركت أنه لا مستحيل؛ وأنه بوسعي تنفيذ كل الأفكار التي في رأسي على أرض الواقع؛ ولا إنجاز من غير جهد ومثابرة وبدون أن أفكر بطريقةٍ مختلفة؛ أحاول قدر المستطاع أن التقط صوراً فريدة".. وكأن الرجل يقول بصيغة أخرى على لسان الذين اختاروا دروب الإبداع المضنية أن "الحب مهنة صعبة".

حلم العالمية

بعد عامين فقط من صداقة الكاميرا صُنّف "المهندس المصور" كواحد من بين أفضل 100 مصور عربي؛ ثم أراد تجرية متعة السفر وما يمنحه من فرصةٍ لالتقاط الصور الخلابة حول العالم ؛ يقول: "أراعي التخطيط الدقيق و المسبق للمكان الذي أود شد الرحال إليه؛ مثلاً قبل سنوات ذهبت لسنغافورة ومع الأسف أني لم أكن محترفاً وقتها؛ وقبل فترة ذهبت إلى جزر الفاو وهي أرخبيل يقع في شمال أوروبا؛ مكثت أسبوعاً أتنقل بكاميرتي بين شلالاتها حيث يعيش في هذه البقعة الخلابة عدد قليل من الناس؛ كي أحظى بزوايا جديدة لم تُلتقط من قبل".

ذهب وحيداً إلى "الفاو" وعلى حسابه الشخصي؛ و حظي فيها بمتعة لا توصف بكلمات؛ يعقب قائلا: "العالم ملىء بالجمال ؛ حين تمر بقرية صغيرة تقع فوق شلال في تلك الجزر فإن المرء يجري على لسانه التسبيح".

ماذا عن التعديلات التي يجريها بعض المصورين فتؤثر على واقعيتها؛ يوضح هذا الأمر :"التعديل جزء لا يتجزأ من مراحل الصورة؛ ولكل مصور تقنياته وطريقته في التعديل الذي ينبغي أن يكون طبيعياً ومقبولاً دون تغيير للواقع بدون تلاعب؛ لا يمكن مثلاً أن أصور شلال وأضيف إليه شلال آخر؛ لكن من الممكن أن أضفي إضاءة على الماء حتى يبدو أبهى؛ وعلى أي حال المبالغة في التعديل تفقد الصورة رونقها".

ولعل القارىء يتساءل من أين له بالوقت لممارسة هوايته؛ لكن من حسن حظ "ضيفنا" أن نظام العمل في شركته يتيح الفرصة للتنفس؛ فهو يقوم على الدوام لأربعة أيام ومن ثم إجازة لأيام بنفس العدد".

تغرقه التفاصيل ومع ذلك لا ينسى أن يظهر الإمتنان لزوجته؛ قائلاً: "تستغرق كل صورة مني وقتاً كبيرا بدءًا من التحضير لها ومن ثم إجراء التعديلات؛ وهذا كله على حساب عائلتي؛ إلا أني فخور بزوجتي التي تفهمتني فقامت بدور لا يستهان به في دعمي؛ وذلك وفق برنامج محدد ومتوازن نتوافق عليه".

وشارك خلف عبر مواقع التواصل في فعاليات نظمها أتحاد المصورين العرب تحت عنوان "أسبوع المايكرو"؛ كما قدم دورات عبر الإنترنت؛ مجيباً عن أي سؤال حتى لو كانت من مبتدىء؛ لعلمه بمدى حاجة مصور لا زال في أول طريق للمعرفة؛ "وإن تطلب الأمر أجيبه برسائل صوتية وأقدمت له التشجيع اللازم و أشرح له بشكلٍ مستفيض؛ لا أحب أن اتجاهل رسائل أحد؛ فيما يقع بعض الزملاء في فخ الغرور".

إذاً لا يتوقف كريم أبداً عن التعلم والاستكشاف أبداً؛ ويقر بأن فكرة تفرغه يوماً ما لتدريس التصوير وترك عمله كمهندس تراوده؛ إذ لا يتقاعس عن تصميم مجسمات خاصة توضيحية كي يعطي أكبر قدر ممكن من المعلومات للآخرين في الدورات التي يدّرب فيها.

ويختم الحديث الهاتفي بحماس فيه تركيز هادئ صوب الأحلام :"أطمح أن أصل إلى درجة العالمية وأن تنشر أعمالي في مجلة ناشيونال جيوغرافيك "النسخة الإنجليزية؛" وأن يصل انتشاري خارج النطاق العربي؛ و آمل من "كريم" ألا يتوقف عن "التطور الذاتي".