فلسطين أون لاين

"أيقونة المقاومة" يبعث الأمل في نفوس أبناء المخيم 

تقرير عبد الرحمن خازم.. ورِث سلاح "رعد" وهيَّأ جسده لاستقبال "الرصاصة القادمة"

...
الشهيدان الشقيقان رعد وعبد الرحمن خازم- أرشيف
جنين-غزة/ يحيى اليعقوبي:

"هدموا بيوتي، وقتلوا أبنائي ولكنهم ليسوا قتلى، والله مولانا ولا مولى لهم، ونحتسب أولادنا عنده شهداء، ولا نقول إلا ما يرضي ربنا"، كلماتٌ صابرة محتسبة ممتلئة بالإيمان بعث بها والد الشهيدين رعد وعبد الرحمن خازم الأمل في نفوس أبناء مخيم جنين في وقتٍ نُكّست فيه الرايات حدادًا على أرواح شهداء أمس، قالها في أول ظهورٍ له عقب سماعه نبأ استشهاد ابنه الثاني، واستهداف منزله.

وارتقى عبد الرحمن بعد اشتباكات مع قوات الاحتلال، ليلحق بشقيقه الاستشهادي رعد (29 عامًا) الذي نفّذ عملية ديزنغوف البطولية في (تل أبيب)، في إبريل/ نيسان الماضي، وأسفرت عن 3 قتلى وأكثر من 10 جرحى إسرائيليين.

"سر في جنين واخلع نعليك، انظر لعيون شبابها وحِدَّتها، ترى كل شابٍّ قد هيَّأ نفسه أن يكون جسده مُستقرَّ الرصاصة القادمة، تجد من لا يهابون الموت، إنما يرجون الشهادة".. بعضُ كلمات كتبها عبد الرحمن على صفحته بموقع "فيسبوك"، تكشف صلابة وعمق انتماءٍ ورِثه عن والده، وشقيقه الشهيد رعد.

رسم عبد الرحمن بعيونه صورةً لشباب جنين: "لم نعد نسمع في جنين السيارات ذات المسجلات العالية إلا على "ومضى الرجال" أو "زفيني جيتك شهيد".

في تأمله عن المخيم قال "قد تتخبط بداخلك: كيف تجرّع هؤلاء الشهامة والرجولة بهذا المقدار؟"، فيدلك هنا على مكان الجواب على السؤال السابق: " سِر في جنين لِترى كيف تُوَرّث الرجولة ".

على جسد عبد الرحمن، كتب جيش الاحتلال كلمة "النهاية"، وُجّهتْ خصيصًا إلى "أيقونة المقاومة" ووالد الشهيدين العقيد فتحي خازم، منتظرًا خروجه مستسلمًا بعدما استُشهد ابناه، لكن خازم الأب لم يذرف دمعةً واحدةً يظهر فيها منكسرًا أمام المحتل، وإن كان حجم الألم والفراق لفلذة كبده كبيرًا.

في مقطع فيديو لم يزد على 32 ثانية، لم يتأخر رد "أبو رعد وعبد الرحمن" على الاحتلال، ظهر الرجلُ قويًّا متماسكًا صلبًا كما خرج في كلِ مرةٍ للاحتلال يشحذ الهمم ويعيد الاحتلال -الذي أراد كتابة النهاية على وحدة المخيم بإطلاق الرصاصة على جسد عبد الرحمن وبقية الشهداء لنقطة البداية- مؤكدًا أنّ المعركة لم تنتهِ باستشهاد نجله.

وقال: "إن هؤلاء الشهداء، دافعوا عن أرضهم ودينهم ومقدساتهم أمام هذا العدوان الغاشم الذي فتح النار على الإنسان والحجر والشجر، وفتح النار على شعب لا يعرف الهزيمة ولا الذلة ولا العار ولا الانحناء، فشبابنا لا يرفعون أيديهم إلا لله".

في مقطع آخر دعا خازم الأب إلى الوحدة قائلًا: "هذا المخيم أمانة بأعناقكم، وحدة المخيم وحدة الفصائل وحدة السلاح أمانةً في أعناقكم، ابقوا يدًا وروحًا وحدة وقاتلوا كرجل واحد"، مستشهدًا بآية من كتاب الله: "إنّ الله يحب الذين يقاتلون في سبيله صفًّا كأنهم بنيان مرصوص".

لم يكن هذا الثبات جديدًا على والد الشهيدين، فعندما استشهد رعد جسّد خازم لوحة في الثبات والصبر: "لله دركم يا أهل فلسطين وأهل جنين ما أجسركم، من أي طينة خلقتم أيها الأبطال؟".

وعندما هدم الاحتلال منزله، خرج بثبات قائلًا: "أما هدم البيت فإنه جهد المقل، وأسأل الله أن يتقبل منا وأن يغفر لنا تقصيرنا في خدمة ونصرة ديننا، وأن يبنى لنا وللمؤمنين والمؤمنات بيوتًا عنده في الجنة، اللهم إني راضٍ فارضَ عني يا الله”.

في سجن "مجدو" عايش المحرر محمد علان، الشهيد عبد الرحمن سبعة أشهر قبل أن ينتقل الأول لسجن آخر فيما أمضى الثاني عامين في سجون الاحتلال، يزيح علان الستار لصحيفة "فلسطين" عن شخصية خازم الابن، فيقول: "كان فكاهيًّا مرحًا طيبًا مع أقرانه، لكنه مع الاحتلال كان صلبًا متماسكًا، حينما تحدث أي إشكالية مع السجانين كنا نراهن عليه أولًا، رغم أنه كان لا يتقيد بالأوامر، ويحب أن يقتنع قبل التنفيذ".

يشيد علان بصفات عبد الرحمن "كان إنسانًا ثائرًا متمردًا، لا يقبل الظلم، ربما كان أحيانًا يعيق التنظيم داخل السجن، لكننا كنا سعداء أنه لدينا شباب من هذا النوع، وراهنّا أن يكون في المستقبل من الثائرين والشهداء، بسبب شخصيته المتحدية للاحتلال وبالفعل حدث ما توقعنا".

مواقف كثيرة، أثبت عبد الرحمن فيها صلابته، لكنّ ذاكرة علان تسحب هذا المشهد من رفوف النسيان: "اعتدت وحدة القمع على أحد الأسرى، وتداعى أسرى القسم للدفاع عنه".

تطفو بقية التفاصيل على حديثه "رأيت يومها عبد الرحمن في الصفوف الأولى وهو يدافع عن الأسير، وبسبب صموده وقوته وشجاعته استطعنا تثبيت الأذان داخل السجن" واصفًا إياه "بالفارس الأول ورأس الحربة في انتزاع قرار من إدارة سجون الاحتلال بالقبول، وكل الأسرى يشهدون بتضحياته".

عرف علان عن الشهيد، أنه كان غير مبالٍ بالاعتقال وكأنه غير موجود بين أربعة قضبان بعيدًا عن أسرته، لدرجة أنه لا يتوانى عن تغيير نمط الروتين، وإضفاء روح الفكاهة على كل شيءٍ، حتى عندما يتلقى الأوامر من ممثلي القسم، فكان يتمرد على التوجيهات بقصد المزاح قبل أن ينفذها.

نشر عبد الرحمن على صفحته على مواقع التواصل الاجتماعي صورةً يرتدي فيها بدلة رسمية وربطة عنق تجمعه بشقيقه رعد، والاثنان يحملان السلاح يعبّر عن شوقه لشقيقه بكلمات لم يُبقها حبيسة القلب وشاركها مع أصدقائه: "كم أفتقدك يا أخي يا شهيد الوطن، كم أتمنى لو أُقبِّل يديك الطاهرتين للمرة الأخيرة وقد كستهما الدماء يوم رحيلك؛ دماءٌ طاهرة زكية.. أخي الغالي عيدك بالجنة أحلى"، لم يطل الفراق، فترجل عبد الرحمن عن صهوة الشجاعةِ، وجاورت روحه رعد، وأسرجت جنين دماء أبطالها من جديد نصرةً للأقصى.