داخل مركز ترميم المخطوطات في المدرسة الأشرفية الواقعة في حرم المسجد الأقصى، ينكب عدد من الاختصاصيين على طاولات بيضاء كبيرة، يمسك أحدهم بفرشاة مصنوعة من شعر السنجاب ينظف بها مخطوطة عمرها عشرات السنين، ومرممة أخرى تنقع إحدى الأوراق في محلول حمضي لتدعيمها وتصميغها.
مرممو المخطوطات هؤلاء، هم متدربون خضعوا لتدريب مكثف على استخدام كافة وسائل الترميم، ضمن مشروع دعم الاستدامة المؤسسية لمركز ترميم المخطوطات الذي تُنفّذه دائرة أوقاف القدس بالتعاون مع منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلم والثقافة (اليونيسكو).
30 مخطوطًا
تقول نهاد أبو اسنينة إحدى المرممات المشاركات في المشروع، إنها تدربت على أيدي فريق يعمل في المركز منذ سنوات عديدة.
وتضيف لـ"فلسطين" أنها اكتسبت خبرات كبيرة في هذا المجال الذي يتطلب مهارات تعتمد الدقة والحذر الشديد، فبعض المخطوطات تصل إلى المركز بحالة سيئة جدًّا بسبب العوامل الطبيعية والحيوية والكيميائية.
وتبين مديرة ومنسقة البرامج في قسم المخطوطات في المسجد الأقصى سمر نمر أنّ المشروع هو سلسلة ضمن عدة مشاريع امتدت على مدار 12 عامًا في المركز، "هدفها الأساسي هو إيجاد مركز متخصص في مجال حفظ وصيانة وترميم المخطوطات الإسلامية".
وتشير نمر لـ"فلسطين" إلى أنه خلال هذه السنة عمل الفريق على ترميم 30 وثيقة، منها وثائق تعود للمتحف الإسلامي، ومركز التراث الإسلامي، وأخرى تعود لمركز الترميم، كما قام المرممون بترميم نسختين من مصحفي ربعة عثمانية كانا في حالة سيئة جدًّا.
وتقول: "ترميم المصحفين كان بمثابة تقييم للمتدربين والخبرات التي اكتسبوها خلال هذا العام".
ويذكر أنه تمّ افتتاح مركز ترميم المخطوطات في المسجد الأقصى المبارك في عام 2008، وهو يُعدُّ الأول من نوعه في الشرق الأوسط من حيث الكفاءة والجودة، وتُعقد عليه آمال للقيام بمهام ضخمة للحفاظ على التراث الثقافي والحضاري في مدينة القدس المحتلة.
من جانبه، يُوضّح خبير مخطوطات وآثار المسجد الأقصى علي وزوز أنّ المركز شهد نقلات نوعية من خلال التدريب والتأهيل والإنجاز في المواد الورقية كافة من ضمنها مخطوطات ووثائق وخرائط، لافتًا إلى أنه سيتم توثيق المشروع رقميًّا من خلال تصوير المراحل التي يمر فيها كل مخطوط.
مراحل الترميم
من جهته يصف الباحث الفلسطيني وعضو الهيئة الإسلامية العليا عزيز العصا مركز ترميم المخطوطات بأنه "غرفة إنعاش" حقيقية لإحياء المخطوطة.
وعن مراحل ترميم المخطوطات، يوضح العصا لـ"فلسطين" أنه يتم القضاء على الآفات الحشرية أو البكتيرية أو الفطريات بالتعقيم بغاز النيتروجين؛ بهدف خنق تلك الحشرات وتكرار ذلك عدة مرات لضمان القضاء عليها.
يُذكر أنّ المرممين يبدؤون بـالتعقيبة: وهي عملية متعبة لضمان تسلسل صفحات من خلال ربط الكلمة الأخيرة من صفحة ما مع الأولى من الصفحة التالية، لافتًا إلى أنّ العرب لم يكونوا يُرقّمون صفحات كتبهم، في حين أنّ الأوروبيين يُرقّمونها منذ القرن السادس عشر.
وللوصول إلى مرحلة معالجة المخطوطات، يوضح أنّ العاملين يتّبعون عدة خطوات قد تكون معالجة ميكانيكية فقط باستخدام فرشاة خاصة في حالة الحبر القابل للذوبان على أن يكون المسح باتجاه واحد لتجنب تلف الأوراق، أو المعالجة الكيميائية التي يدخل فيها المحاليل الكيميائية، مثل: الماء الثقيل (H2O2) والكحول المثبتة للأحبار.
وهناك مرحلة في غاية الأهمية وهي فحص الأحبار فهي مختلفة؛ ففي أوروبا استخدموا الأحبار الحديدية التي لا تذوب في الماء، بينما العرب استخدموا الحبر الكربوني وهو حبر قابل للذوبان وبسرعة لذا لا بد من فحص نوع الحبر قبل الشروع في أي خطوة نحو المعالجة، وذلك بفحص القاعدية (PH) الخاصة بالحبر، وِفق قول العصا.
ويلفت إلى أنّ المخطوطات تمر بمرحلة غسيل الورق بعد التأكد من نوع الحبر، وتحديد حامضيته، وتحديد نسبة الكحول المثبتة من خلال معرفة الذائبية، ثم يتم غسل الورق باستخدام محلول خاص، وفي هذه الحالة قد تفقد الوثيقة نسبة من الصمغ الذي يدخل في مكوناتها، مما يدفع إلى إعادة تصميغ الورقة وتدعيمها.
وبعد ترميم كامل صفحات المخطوط يصبح جاهزًا للتغليف أو إعادة التغليف، ففي حال توفر الغلاف القديم يتم ترميمه وتثبيته في مكانه من المخطوط، كما يتم عمل بطاقة خاصة للمخطوط هي بمثابة هوية تُبيّن جميع المعلومات الخاصة به، مثل: العنوان، المؤلف، تاريخ النقش، قياساته (أبعاده)، وعدد الصفحات أو الأوراق...الخ.
بعد ذلك يتم حفظ المخطوطة في صندوق يصمم يدويًّا بحجم المخطوط، على أن تكون مكونات الصندوق مصنعة من مواد غير قابلة للأكسدة، ثم تأتي لاحقًا عملية التصوير الرقمي والترميم الإلكتروني بتصوير المخطوطات صفحة صفحة؛ لضمان توفير نسخة إلكترونية دقيقة تتابع فيها صفحات المخطوط لتسهيل استخدامها من قبل الباحث.
ولا تنتهي عملية ترميم المخطوطات عند هذه النقطة، إذ يتم تعقيم صندوق المخطوطة كل شهرين؛ لملاحقة أي نشوء جديد لحشرات أو فطريات.
البصمة
ويُشدّد العصا على أنّ للمخطوطات خصوصيات تتميز بها عن غيرها من الوثائق الورقية، تكاد تشبه البصمة؛ إذ يلاحظ أنّ ما تعانيه مخطوطة ما قد لا يتكرر في المخطوطات الأخرى، الأمر الذي يوسع مجال العمل فيها، ويرفع من صعوبة المهمة التي يُنفّذها العاملون في هذا المجال، فبعض المخطوطات قد يتم ترميمها في أسبوع والآخر قد يستغرق عامًا كاملًا.
وينبه الباحث إلى أنّ ترميم المخطوطات عملية مضنية ومكلفة، وتحتاج إلى وقت طويل حتى ترمم. كما أنّ المختصين في هذا المجال قلة على مستوى العالم، وهذا يتطلب جهدًا من صانعي القرار على المستوى الوطني لرفع مستوى الاهتمام والرعاية الخاصة بترميم المخطوطات.