يبدو أن الأجواء التي لم تزل سائدة حتى اللحظة قائمة تماماً بعد الهجوم الأوكراني المضاد وإنجاز التقدم الميداني في بعض المناطق في شرق أوكرانيا، وقد ذكرت صحيفة "تايمز" البريطانية أن الخيارات التي تواجه الرئيس الروسي فلاديمير بوتين مقلقة، وأنه أمام خيارين كما يعتقد مراقبون مُطلعون أن على بوتين إما انتظار استمرار التراجع أو مضاعفة سعيه لإحراز نصر عسكري بالوحدات الاحتياطية أو قد يضطر لاستخدام القنابل النووية.
ويرى فرانز ستيفان غادي الباحث في المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية، أنه كلما نجح الجيش الأوكراني، ازدادت المخاطر بأن يأمر بوتين باستخدام "سلاح نووي تكتيكي"، وهي ذات مردود أقل من الأسلحة النووية الاستراتيجية، وتهدف عادة إلى تدمير أهداف في منطقة معينة من دون التسبب في دمار واسع النطاق، وهذا سيعني أن الجنرالات سيقدمون عدداً من الخيارات التي تتدرج في الشدة.
وليس سهلاً بأي حال اتخاذ قرار استخدام السلاح النووي الذي يمر عبر عديد المحطات السيادية المعقدة، وتشير مراجع وثيقة الصلة بوزارة الدفاع الروسية أنه بعد أن يعقد العزم على الهجوم فإن هذه العملية تستغرق نحو 20 دقيقة، فهناك 3 حقائب نووية تُشكل ما يُسمى ب "نظام القفل الثلاثي".
ولدى بوتين واحدة منها تحتوي على نظام من الرموز وليس بها مفتاح نووي، وعند تشغيلها يرسل الرمز إلى وزير الدفاع الروسي والخطوة الثالثة إرسال الرمزين إلى رئيس الأركان العامة الجنرال "فاليري غير أسيموف" فتتجمع لديه الرموز الثلاثة ليتخذ بعدها خطوة التنفيذ.
وأشار مراقبون أن الخيار الأقل سوءاً هو أن تقرر روسيا استخدام ذاك السلاح النووي التكتيكي فوق البحر الأسود لوقف "الزخم الأوكراني" الذي زوده البنتاغون ودول أوروبا بأسلحة حديثة ومؤثرة إلى جانب خبراء لاستخدامها ضد روسيا، وهذا الهجوم سينظر إليه على أنه دليل على جدية روسيا واستعدادها لمواصلة ذلك فيكون عامل ردع فعال للجيش الأوكراني.
ورغم سخونة الساحة الأكروانية فإن هذا الاحتمال لم يزل "منخفضاً للغاية" كما يشير الخبراء.
أما المختص في الشؤون الكيماوية هاميش غوردون فقدر أن معاقبة أوكرانيا على تطاولها قد يكون بتدمير محطة زاباروجيا النووية وستكون النتيجة أسوأ بـ 6 مرات من تشيرنوبل لأن شروط "العقيدة النووية" الروسية تسمح لقادة موسكو باستخدام القنابل النووية التكتيكية لمنع الهزيمة.
ولكن أحد الخبراء البارزين في العالم في مجال القوات النووية الروسية يقول أنه ولكي "ينشر بوتين أسلحة نووية بموجب تلك العقيدة، فيجب عليه أن يعتقد أو يزعم أنه كذلك أن هناك تهديداً لوجود الدولة الروسية،، وقد أكد المسؤولون الروس مراراً وتكراراً أنهم "سيتبعون هذا المبدأ بصرامة" إلى جانب أن ترى روسيا أن يدرك العالم بأن الوضع أصبح على حافة الهاوية بالنسبة للروس، لأن النهاية الحتمية للحرب التي تستخدم فيها الأسلحة النووية التكتيكية هي كارثة كونية بكل المقاييس، فكيف إذا تطورت لما هو أكبر وأخطر حين تستخدم القنابل الاستراتيجية؟!
ووفق خبراء عسكريين فإن جوهر العقيدة النووية الروسية يعني اللجوء إلى التصعيد من أجل فرض تخفيض التصعيد على الخصم.
أما الرئيس الأمريكي بايدن فقد وجه تحذيراً لبوتين بأن لا يستخدم أسلحة كيميائية أو نووية تكتيكية قائلاً في مقابلة أجرتها معه شبكة "سي بي إس": "لا تفعل" وقد كررها 3 مرات!
ومعلوم أن واشنطن تقوم بتقديم مساعدات عسكرية سخية لأوكرانيا بمليارات الدولارات وكما عبرت إدارة بايدن عن استعدادها لتقديم حزمة جديدة تقدر بـ 600 مليون دولار تشمل أنظمة متقدمة في الصواريخ والمدافع في الوقت الذي نقل فيه موقع" بوليتيكو" أن كييف وواشنطن تتفاوضان حول إمكانية إرسال أنظمة باتريوت وطائرات F16 ومسيرات "غراي إيغل" في إطار اتفاقات تمويل طويلة الأجل.
وفي واشنطن قال منسق الاتصالات في مجلس الأمن القومي الأمريكي جون كيربي: إن بلاده ستستمر في تزويد أوكرانيا بقدرات دفاعية لتلبية احتياجاتها ولضمان انتصارها في ساحة المعركة وعلى طاولة المفاوضات.
ويري مراقبون كثر أن حقيقة ما يجري في أوكرانيا هو حرب أمريكية أوروبية استباقية ضد روسيا لتحجيم دورها على المسرح الدولي وتسعى فيما تنوي الوصول إليه لفض العلاقات الروسية الصينية الهندية لما لهذا التحالف من تأثيرات سياسية هائلة على نفوذ واشنطن الأمني والعسكري والاقتصادي، ويأتي في هذا السياق الضغوط التي تمارس على إيران ولعدة عقود، وتلك التي تعرضت لها تركيا منذ محاولة الانقلاب الفاشلة، وصفقة الصواريخ S400 وضرب الليرة التركية وإذكاء الخلافات بينها وبين اليونان وأزمة استخراج الغاز والنفط من الآبار المكتشفة شرق البحر الأبيض المتوسط .
كما أن من أهم تكتيكات التحالف الغربي هو توريط روسيا في حرب استنزاف طويلة على الساحة الأوكرانية تَحُدُّ من إمكانية نشوء عالم متعدد الأقطاب وهو الذي نرى مقدماته جلياً وهي تتبلور اليوم.
إن ما قد يدفع روسيا لتتقدم نحو الخيار النووي هو السعي الغربي المحموم نحو قبول أوكرانيا عضواً في الاتحاد الأوروبي ومن ثم حلف النيتو إلى جانب نشر المزيد من القوات والصواريخ الباليستية في بولندا وفنلندا وغيرها من الدول التي لها حدود مع روسيا.
ويحاول محركو الدُمى في واشنطن تصعيد قواعد الاشتباك ضمن الجوار الروسي من خلال الزيارة التي قامت بها بيلوسي رئيسة مجلس النواب الأمريكي لأرمينيا بهدف مشاغلة روسيا وتضييق حيّز نفوذها في آسيا الوسطى وما وراءها، وليس كما تدعي واشنطن بأن الزيارة كان مُعدّاً لها قبل اندلاع الحرب الروسية الأوكرانية.
وعلى المقلب الآخر فإن الرئيس الروسي بوتن يحرص دوماً على الإشادة بصناعته العسكرية وبأداء جيشه في أوكرانيا التي يصر على تسميتها بالعملية الخاصة، وهي الأسلحة التي مكنت من تحقيق انتصارات كبيرة في جورجيا عام 2008 وفي شبة جزيرة القرم ودونباس عام 2014 وفي سوريا، وبأداء الجيش الروسي في أوكرانيا الذي تمكن من السيطرة على ما يقارب ثلث البلاد.
وتؤكد موسكو أن عمليتها العسكرية في أوكرانيا تسير بدقة وفق الخطط التي رسمت لها، ووصفت "تراجعات خاركيف" بأنها إعادة انتشار مرسوم لتسهيل "تحرير دونباس"، وقد أشارت هيئة الأركان الروسية إلى قصف المناطق الشرقية والجنوبية من أوكرانيا، وقد تركز ذلك على خاركيف ومحيط كراماتورسك وباخموت وبلدات على طول الجهة الجنوبية تمهيداً للتقدم على طول هذه الجهات.
وتشير شبكة "إن بي سي" الأمريكية نقلا عن مصدرين عسكريين في البنتاغون، أن إدارة الرئيس جو بايدن أجلت تقديم صواريخ باليسيتية بعيدة المدى إلى أوكرانيا بعد تحذيرات موسكو من فعل ذلك، خشية أن يتسبب الإمداد الأمريكي من رد روسي خطير وقد يفجر حرباً واسعة مع روسيا، والتي قد تتدحرج بعدها كرة اللهب نحو حرب عالمية ثالثة لا تُبقي ولا تذر.