فتحت بوابة الحاجز الإسرائيلي للأعلى، وتحركت خطوات المحررة آمنة اشتية "22 عامًا" للأمام قليلا، تفصل تلك البوابة بين حياة السجن وقسوته والحرية التي تفرد ذراعيها لها، بعد أسر دام ستة أشهر "إداريا"، كما فرد والدها ذراعيه على بعد أمتارٍ عديدة من الحاجز، ثم ركض نحوها تجري معه، أشواقه إليها، حتى عناقها ودار بها أمام عيون السجانين، منتشيًا بالفرح، ثم سجد يشكر المولى عزل وجل بحرية ابنته الوحيدة التي عادت لتزهر قلبه وقلب أمها التي عانقتها ووضعت طوق الياسمين على رأسها.
"فرحة الحرية لا تضاهيها فرحة، بلقاء الأهل رغم أنها ناقصة بسبب اعتقال أخي مالك، وناقصة لأن هناك 26 أسيرة ينتظرن حريتهن خلف القضبان، وآمل أن نلتقي بهن خارج السجن كما هون عليّ مرارته حين اعتقالي"، يغمر الفرح صوت آمنة وهي تتحدث لصحيفة "فلسطين" عن فرحتها بالإفراج عنها الجمعة الماضية من سجون الاحتلال.
عاشت آمنة تجربة جديدة داخل الأسر مختلفة عن كل تجارب حياتها، تعلمت فيها من صبر إسراء جعابيص، ومن صلابة باقي الأسيرات اللواتي تحدين مرارة الحياة داخل السجن مؤكدةً، "أن الأسيرات كانوا مساندات للأسرى في كل شيء".
رغم أنها كانت "تجربة خجولة" كما تقارنها آمنة بتجارب أسيرات أمضين سنوات في الأسر وما زال أمامهن سنوات حتى تنتهي أحكامهن، إلا أنها تجربة: "قوتها وزادت من ثباتها وعزيمتها".
اليوم الأول
لفتاة لم تجرب الأسر من قبل كان ليومها الأول رهبة كبيرة، وإن حاولت الأسيرات تهوين وطأته عليها، تدخل السجن مرة أخرى ولكن من بوابة الذاكرة: "عندما وصلت إلى السجن، استقبلتني الأسيرات، كان يومًا صعبًا جدًّا وطويلاً (...) بعد ذلك كنا نتشارك ترتيب الغرفة، طهي الطعام، الرياضة، قراءة القرآن، تأثرت بالأسيرة إسراء جعابيص التي رغم الحروق التي تملأ جسدها تحاول أن تكون قدوة ومعلمة في الصبر للأسيرات الجدد مثلي، وكانت تعطيني شحنة قوة وثبات أكبر".
بين فرح في انتصار الأسرى على إدارة سجون الاحتلال وصل إليها صداها لقسم الأسيرات في سجن "الداموان" حيث توجد آمنة، وحزن على مفارقة أسيرات أمضت معهن لحظات صعبة، هكذا غادرت آمنة السجن، وقبل حزم حقيبة المغادرة كان لا بد من جلسة وداع: "استيقظت مبكرًا، وجلست معهن نتحدث حتى آخر لحظة لي"، تصف تلك اللحظات بالمؤلمة.
حلاوة الحرية
للحرية حلاوة كما يقولون لا يشعر بلذتها إلا من جرب ساعة في الأسر، فكيف الذي يمضي ستة أشهر خلف القضبان، وإن كانت قليلة مقارنة بأحكام أسرى أمضوا سنوات طويلة خلف القضبان، لكن في حسابات أمها، مضى الشهر كعام: تصف الغياب " هي ابنتي الوحيدة إضافة لثلاثة شباب، فلها حضورها، ولم نكن نتوقع أن يتم أسرها، لذلك كانت لهفتنا عليها كبيرة".
يبتسم صوت الأم ويطير الفرح من بين كلماتها: "ما صدقنا إنها تروح".
مرت آخر اللحظات على عائلتها صعبة، خشيت أن يكون مصير آمنة كمصير مئات "الأسرى الإداريين" الذين مدد الاحتلال اعتقالهم فترات أخرى، "عشنا آخر اللحظات في توتر، كنا ننتظر أن تتصل بنا لتخبرنا أنها وقعت على أمر الإفراج، لكون الاحتلال معروف عنه الغدر والمماطلة وقتل الفرحة".
لم تخِب آمال اشتية الأم، الأربعاء الماضي تلقت اتصالاً هاتفيًا من ابنتها، وقالت لها ما انتظرت سماعه لتهدئ مخاوفها: "هي ختموا الأوراق، وحروح الجمعة"، تعلق الأم: "حمدت الله حينها، كما حمدته لحظة معانقتي لها وعودتها للمنزل، وفرحتي لها ليس لأنها البنت الوحيدة، بل لأن لها حضورها ومطيعة لنا ومميزة".
في 23 مارس/ آذار الماضي، اعتقل الاحتلال آمنة التي تدرس تخصص فقه وأصول دين بجامعة النجاح بمدينة نابلس، وحرمها من إكمال فصلها الأخير وأخر تخرجها، وحسب لائحة الاتهام كانت التهمة الانتماء للكتلة الإسلامية والمشاركة بأنشطة طلابية.
لحظة قاسية
منذ عام 2014، وقوات الاحتلال تنغص حياة عائلتها باعتقال أشقائها أو تفتيش المنزل وتخريب أثاثه، لكن مشهد اعتقال آمنة كان الأصعب، تقول أمها: "دخلوا علينا الساعة الثالثة فجرًا، فاستقبلهم ابني الأكبر مالك وسألهم: "في اعتقال؟"، فأجابه الضابط: "لا".
تستعيد بقية التفاصيل: "ارتحت واعتقدت أنه تفتيشٌ عادي الذي اعتدناه رغم صعوبته وقسوته أيضًا، قبل أن يطلب الضابط الإسرائيلي وثيقتي الشخصية ووثيقة آمنة".
كانت ردة فعل شقيقها مالك الذي اعتقلته قوات الاحتلال بعدها بثلاثة أسابيع، كبيرة وقال لهم متحديًا: "على جثتي بتاخدوا أختي!"، وحدث تدافع مع الجنود، ووالدها تصدى لهم، لكن وأمام تهديدات الجنود باستخدام القوة ضدهم سلمت العائلة لأمر الاعتقال.
ستة شهور صعبة، مُنع فيها الأبوان من زيارة ابنتهما: "حاولنا كثيرًا زيارتها لكن الاحتلال كان يرفضنا أمنيًا، فتخيل فتاة تعتقل لأول مرة وتحرم حتى من الزيارة، كانت فترة صعبة علينا وعليها لكن ورغم ذلك كانت عزيمتها قوية".
عادت آمنة لتزهر بيتها، وتركت خلفها شقيقها مالك في سجون الاحتلال، حسب تعبيرات أمها "فإن الروح ارتدت إلى البيت برجوعها، رغم مرور شهر رمضان وعيدي الفطر والأضحى في غيابها، شعرت فيها الأم بالفارق الذي يشكله وجوده في حياة أسرتها".