في مثل هذه الأيام قبل سبعة عشر عاماً، وعلى وجه التحديد يوم الثاني عشر من سبتمبر/2005م شهدنا اندحار آخر جندي إسرائيلي عن تراب قطاع غزة الحبيب وشمال الضفة الغربية.
يناقش المقال البيئة الإستراتيجية ما قبل الاندحار، وكذلك الأهداف الصهيونية من الانسحاب الأحادي الجانب (خطة فك الارتباط) من قطاع غزة والضفة الغربية، وما مستقبل قطاع غزة بعد سبعة عشر عاماً من الاندحار؟
أولاً- البيئة الإستراتيجية ما قبل الاندحار:
إحدى وعشرون مستوطنة في قطاع غزة يعيش فيها ما يقارب 8000 مستوطن، يعيشون على مساحة 35% من مساحة قطاع غزة الذي كان يقطنه في ذلك الوقت 1.5 مليون فلسطيني. وأربع مستوطنات في شمال الضفة الغربية، يقوم على حراسة هذه المستوطنات العديد من الوحدات القتالية في جيش الاحتلال الإسرائيلي، في ظل أزمة اقتصادية تعانيها دولة الاحتلال في ذلك الوقت، وضربات نوعية للمقاومة الفلسطينية مع اندلاع انتفاضة الأقصى بأشكال وأساليب متنوعة ( صواريخ وقذائف هاون – اقتحام استشهاديين – أنفاق مقاومة مفخخة – مواجهات شعبية – إطلاق رصاص وكمائن – تفجير عبوات في الآليات وتحديداً دبابة ميركافاه 4).
ما سبق يشكل الأرضية لصانع القرار في (تل أبيب) في اتخاذ قراره، ولكن كعادة (إسرائيل) تحاول دائماً استثمار التهديد وتحويله لفرصة، هذا ما حصل في محطات عديدة، تهزم عسكرياً، وتوظف الهزيمة لانتصار سياسي عبر علاقاتها الدولية واستثمار قوة الولايات المتحدة في تحقيق أهدافها. وهو ما قام به أرئيل شارون عبر تبني خطة فك الارتباط من جانب واحد بعيداً عن أي عملية سياسية، وذهب بالخطة إلى الولايات المتحدة ليجني المكسب الأكبر وكان ذلك في نيسان 2004م، عبر قمة جمعت جورج بوش، وأريئيل شارون في واشنطن، وأعلن فيها رسمياً عن النص الكامل لخطة (فك الارتباط)، الخاصة بجلاء المستوطنين عن قطاع غزة، وعن أربع مستوطنات في شمال الضفة الغربية، من بين (120) مستوطنة أقامتها (إسرائيل) خلال سنوات الاحتلال. مقابل رسالة ضمانات أمريكية تشرعن ما تبقى من مستوطنات وبناء استيطاني في القدس والضفة الغربية، وهو ما سهل على أرئيل شارون تحقيق ثلاثة أهداف في آن واحد:
1. المستوطنات التي تم الانسحاب منها كانت في مناطق متناثرة تصعب من عملية بناء جدار الفصل العنصري، والانسحاب سهَّل من عملية بناء الجدار ما يؤكد فكرة إدارة الصراع وليس حله.
2. الحصول على رسالة ضمانات أمريكية تعهدت فيها ببقاء الكتل الاستيطانية الإسرائيلية الكبرى في الضفة الغربية تحت "السيادة الإسرائيلية"، ورفض الانسحاب الإسرائيلي إلى حدود الرابع من حزيران، ورفض حق العودة للاجئين الفلسطينيين.
3. تقليل التكلفة العسكرية والأمنية والاقتصادية في ظل ما كانت تعانيه (إسرائيل) في ذلك الوقت من بطالة.
ثانياً- مستقبل قطاع غزة بعد 17 عامًا من الاندحار:
الاندحار من قطاع غزة وشمال الضفة الغربية يشكل سابقة هي الأولى بأن ينسحب الاحتلال الإسرائيلي من أراضٍ لطالما اعتبرها مثل (تل أبيب)، وهذا بفضل صمود شعبنا وضربات المقاومة، وحتى إن نجح الاحتلال في الاستفادة من فك الارتباط سياسياً واقتصادياً إلا أنني أستطيع القول: إن اندحار (إسرائيل) من قطاع غزة منح المقاومة الفلسطينية مساحة كبيرة في العمل والإعداد والتجهيز ومراكمة القوة، ولكن ضمن تقييم لسياسة الاحتلال تجاه القطاع يؤكد أنه أعاد الانتشار ولم ينسحب كما يروج في المحافل الدولية، فهو منذ ذلك الوقت وحتى تاريخه يسيطر على البحر والجو، ويمنع بناء ميناء أو مطار، ويحاصر القطاع منذ ستة عشر عاماً، حصاراً انعكس على كل مناحي الحياة في قطاع غزة.
ما سبق صحيح، وبغض النظر عن الجدل الدائر في الساحة الفلسطينية عن التسمية: اندحار أو إعادة انتشار، أو حتى حجم المكاسب الفلسطينية بالمقارنة مع المكاسب الصهيونية، إلا أن شيئاً يحسم الجدل يتمثل في تطور أداء المقاومة ونجاحها في مراكمة القوة، وتستطيع المقاومة في هذا التوقيت البدء في جني الثمرة، ولا سيما في ظل النشاط الدبلوماسي والتنافس الإقليمي والدولي حول توفير بدائل للغاز الروسي للقارة الأوروبية من غاز شرق المتوسط، وعليه يتوقف مستقبل قطاع غزة من الناحية الإيجابية على قدرة حاكميه في المناورة السياسية ليكون لها مكان وتأثير في معادلة الطاقة، ولا سيما أن بعض حقول الغاز في مرمى نيران المقاومة، ورغم أن المنطق يقول بعدم صوابية توجيه النيران لتلك الحقول إلا أن المنطق الآخر يقول لا ينبغي أن يبقى قطاع غزة تحت الحصار ويعاني أزمة كهرباء وسيولة نقدية وفي المقابل أن المقاومة قادرة على الاستثمار الإنساني والتوظيف السياسي لملف الغاز بالتعاون مع كل الأطراف المعنية.