فلسطين أون لاين

بين النفق وأول الضوء

مرّ عام على عملية نفق الحرية، التي تمكن خلالها ستة من الأسرى الأبطال في سجن جلبوع من تحرير أنفسهم، عبر الخروج من نفق أسفل السجن، استمر حفره عدة أشهر بأيديهم وبأدوات بدائية، من تلك الشحيحة المتوفرة في سجنهم لأغراض تناول الطعام، مع اتخاذهم احتياطات كتمان وحرص عالية طوال مدة الحفر، مكنتهم من مراوغة السجانين وتجاوز حملات تفتيشهم الدورية والمفاجئة التي تستهدف زنازين احتجاز الأسرى في جميع السجون.

ومع أن جيش الاحتلال الذي استنفر كل أجهزة دولته للبحث عنهم قد أعاد اعتقالهم بعد عدة أيام على عملية الهرب، إلا أن العملية ستظلّ علامة فارقة ومدهشة في سجلّ تاريخ البطولة الفلسطيني المعاصر، فهي من جهة قد حرّرت إرادة الفلسطيني في كل مكان مما يكبلها، وصارت مثالاً لكسر هواجس وحواجز المستحيل، فأنعشت الوعي المقاوم عموماً وأعادت الألق إلى خيار تحدي ومواجهة المحتل، عبر انبثاق آفاق جديدة للعزيمة والإصرار ونفَس المواصلة.

ومن جهة ثانية سدّدت ضربة تفوّق قوية على منظومة أمن الاحتلال بمستوياتها العسكرية والاستخبارية، وبدت كأنها نسفت أسوار سجن جلبوع المحصن والمدجج بكل آليات المراقبة الحديثة، ولعلنا لا نبالغ إن قلنا إن آثارها الكبيرة في إضعاف معنويات وتهشيم كبرياء الآلة العسكرية الصهيونية ما زالت ماثلة حتى الآن.

حاول الاحتلال منذ تنفيذ العملية وحتى الآن تعويض التهتك في معنوياته باتخاذ سلسلة إجراءات عقابية ضد الأسرى، بدأها باعتداءات واسعة على أقسام للأسرى في سجن جلبوع وبعزل الأسرى الستة وعدد من أسرى حركة الجهاد الإسلامي في السجون، وبتنفيذ إجراءات انتقامية ضد عموم الأسرى، كان آخرها قراراً اتخذته إدارة السجون قبل نحو شهر يقضي بإقرار خطة تنقلات تعسفية مستمرة ودورية ضد جميع أسرى الأحكام العالية، وهو ما استدعى وقفة جادة وحازمة من عموم الحركة الأسيرة، التي توافقت على سلسلة إجراءات احتجاجية على كل الإجراءات العقابية، بدأتها قبل أسبوع وكان يفترض أن تبلغ ذروتها بإضراب جماعي عن الطعام يبدأ الخميس الماضي، لكنه توقف في اللحظات الأخيرة، وبعد رضوخ إدارة السجون لمطالب الأسرى الأساسية وتراجعها عن جملة من إجراءاتها الأخيرة أهمها قرار التنقلات التعسفية، وبعض الإجراءات التفصيلية الأخرى المتعلقة بوضع الأسرى.

هذا الإنجاز الأخير للحركة الأسيرة الفلسطينية يعدّ مهماً وكبيراً، لكونه أرغم إدارة السجون على وقف تغوّلها على حقوق الأسرى ومكتسباتهم، وهو التغول الذي بدأ منذ عملية نفق الحرية، إضافة إلى أن الإنجاز تحصّل دون الاضطرار لخوض خطوة الإضراب وما سيترتب عليها من مكابدة كبيرة وشاقة وجولات تفاوض مضنية، وهو ما يعكس أهمية التماسك والتوحّد الذي أظهرته قيادات الحركة الأسيرة بمختلف فصائلها؛ ما دفع الاحتلال لقراءة مدى جدية وإصرار الأسرى على خوض تلك المعركة، الأمر الذي دفعه للاستجابة لمطالبهم وتجنيب نفسه تبعات معركة الإضراب الجماعي الواسع عن الطعام، وما قد يترتب عليه من انفلات للأوضاع داخل السجون، وما يمكن أن يفرزه ذلك من آثار على الشارع الفلسطيني في الخارج، خصوصاً مع بوادر تعافي حالة المقاومة في الضفة الغربية.

أثار إنجاز الأسرى الأخير الانتباه إلى نقاط وأفكار عديدة متعلقة بالمشهد الفلسطيني عموماً، منها  أهمية الخطوات النضالية الموحدة، وجدوى التماسك في الجبهة الفلسطينية، وأثر الاستعداد العالي  في إضعاف معنويات الاحتلال وإلزامه بالتراجع، وفي المقابل كل ما يمكن أن يُقال حول أسباب غياب هذا التوحد والتوافق عن المشهد الفلسطيني خارج السجون، وطبيعة الجهة المعطلة لكل خطوة جدية في هذا السياق، وتلك الحقيقة المرة بأن ارتهان إرادة السلطة الفلسطينية السياسية للاحتلال عامل أساسي من عوامل تعطل إمكانيات التماسك الداخلي.

عام بين انبلاج النور من نفق الحرية وإنجاز الحركة الأسيرة الأخير، ولعلّ هذا الإنجاز أول الضوء المبشّر بفجر حرية الأسرى، وقد تسلحوا بكل هذا الأمل المستمد من نضالهم الطويل وإنجازاتهم المهمة، وقدرتهم الاستثنائية على إعلاء راية المواجهة حتى وهم مقيدون ومحتجزون خلف أسوار سجونهم العالية.