لا يزال معاذ يذكر جيدًا أول يوم اصطحبه فيه والده إلى حلقة التحفيظ في المسجد وهو ابن خمس سنوات، وكيف بدأ حينها الحفظ بالتلقين كلمة كلمة وآية آية، وكيف مرت الأيام والسنوات في رحاب المسجد إلى أن أتم حفظ القرآن الكريم كاملًا عندما بلغ من العمر 12 عامًا.
يقول: "كنت صغيرًا لا أعرف القراءة والكتابة، ولا أتقن اللفظ الصحيح لكل الكلمات، فبدأت الحفظ بالتلقين على يد شيخي الشهيد نور بركة، وقد قوَّم القرآن لساني فصرت أتقن مخارج الحروف واللفظ الصحيح لكلمات القرآن في سن مبكرة".
معاذ أبو مصطفى يبلغ من العمر 25 عامًا، تمكن قبل أيام، بصحبة أخويه محمد ومحمود، من سرد القرآن الكريم على جلسة واحدة، ضمن مشروع "صفوة الحفاظ" الذي نفذته دار القرآن الكريم والسنة بغزة.
رحلة الحفظ والتثبيت
وعن رحلته في المراجعة والتثبيت يروي معاذ لـ"فلسطين": "بعد أن أتممت حفظ القرآن الكريم ثبته في مشروع تاج الوقار، وانقطعت بعدها عن المراجعة مدة 11 عامًا".
ويصف تلك المدة بأنها كانت مصحوبة بمحاولات التثبيت والالتزام بورد المراجعة، والدعاء بأن ييسر الله له سرد القرآن الكريم على جلسة واحدة.
وفي ليلة عام 2020 استيقظ معاذ وعقد العزم ووضع خطة للمراجعة والتثبيت وبدأ، وبعد أربعة أشهر من المراجعة والتثبيت استطاع سرد القرآن على جلسة واحدة أول مرة في حياته.
وأعانه على الوصول إلى هذه المرحلة من الإتقان في الحفظ تعاهد القرآن دائمًا بالتلاوة والمراجعة، والتركيز العالي جدًّا في أثناء التسميع.
ولتحصيل ذلك كان يمسك بورقة وقلم في أثناء التسميع وأي آية حفظها ضعيف يدوِّنها ويرددها مرارًا حتى ترسخ في عقله وقلبه، وكذلك دراسة متشابهات القرآن الكريم وحفظها، ودراسة قواعد الضبط والتقعيد لربط الآيات والسور لتثبيت المحفوظ.
أما محمد ذو الـ17 عامًا فيقول: "إن سردي القرآن على جلسة واحدة بصحبة "صفوة الحفاظ" لم يكن المرة الأولى، وإنما الرابعة، فقد سردته مرتين العام الماضي، كان بين الأولى والثانية ثلاثة أيام فقط، وهذا العام سردته كاملًا في يوم عرفة".
ويوضح أن دراسته العقيدة والفقه والتفسير وعلوم القرآن ساعدته على إتقان حفظه، فهو لا يحفظ الآيات فقط، بل أيضًا يفهم معانيها والأحكام التي تحويها.
بركة القرآن وهيبته
وعلى الطريق ذاته سار محمود (15 عامًا)، الذي بدأ الحفظ في سن السادسة برفقة شقيقه الأكبر محمد، متمًّا الحفظ في سن مبكرة.
ويخبرنا بأنه سرد القرآن ثلاث مرات قبل أن يسرده مع "صفوة الحفاظ"، مستحضرًا المشاعر التي انتابته بعيد إتمام سرد الختمة القرآنية: "هي مزيج من الفرح والسرور والشعور بالخشوع، واستحضار هيبة القرآن وجلالته في النفوس".
ويمضي إلى القول: "يورث القرآن في النفس طمأنينة وسكينة وهدوءًا ورضا عن الله وأقداره في حياة الإنسان، وبين الناس نجد الاحترام والتقدير، فكثيرًا ما يقدمني الرجال في المسجد للإمامة بهم في الصلاة، وهذا كله ببركة القرآن".
وعلى نهج "ما زاحم القرآن شيئًا إلا باركه" يسجل محمد موقعًا متقدمًا في تحصيله الدراسي بحصوله على درجة الامتياز في أغلب المراحل الدراسية، ولم يكن ينقطع عن ورد الحفظ والمراجعة حتى في أوقات الاختبارات النهائية.
ويصف الورد القرآني اليومي بـ"الطعام"، قائلًا: "فكما لا يمكن للإنسان الاستغناء عن الطعام، لا أتنازل عن حصتي من الحفظ والتثبيت".
ويبين الإخوة أن حب اللعب واللهو، وتفضيل الراحة على التعب أبرز ما واجهوه في طريقهم للحفظ، قائلين: "فقد كنا صغارًا تميل أنفسنا إلى ملاحقة الأقران"، مؤكدين أنهم ما كانوا ليصلوا إلى هذه المرحلة لولا فضل الله وتوفيقه، ثم جهد والديهم اللذين بذلا كل ما بوسعهما لتوفير البيئة المناسبة، والتشجيع والتحفيز المستمرين، ومساعدتهم على الحفظ والتثبيت.
ثمرة إعداد طويل
أما والدتهم (أم معاذ) التي تملكتها مشاعر الفخر والفرحة بإنجاز أبنائها فتقول: "تعبنا معهم كثيرًا، وبذلنا جهدًا عظيمًا إلى أن وصلوا لسرد القرآن الكريم على جلسة واحدة"، مشيرة إلى أن أبناءها العشرة يحفظون القرآن كاملًا.
وتتابع: "من سن مبكرة جدًّا كنت ووالدهم نُعدهم لهذا اليوم، فما وصلوا إليه هو ثمرة سنوات طويلة من الإعداد، كنت أسهر مع أبنائي إلى وقت متأخر من الليل لأتحقق من إنهائهم ورد الحفظ، وبعد الفجر مباشرة أبدأ التسميع لهم".
وتؤكد أم معاذ أهمية أن يبذل الأهالي الجهد لتحفيظ أبنائهم القرآن، ليجدوا أثر ذلك واضحًا في دنياهم وآخرتهم.
"القرآن لا يقبل إلا الأقوياء، والقوة ليست بالجسم بل القلب، فكل من حمل القرآن في صدره قوي" يقول معاذ، موصيًا كل من أراد أن يلج باب حفظ القرآن الكريم ويصل إلى سرده غيبًا بأن يتسلح بالدعاء، والتضرع والإلحاح على الله (عز وجل)، والبعد عن المعاصي والذنوب، وامتلاك العزيمة والإرادة، وأن يتخذ لنفسه شيخًا يتابع معه ويساعده ويقويه في هذا الطريق.
ويختم بقوله: "نحن في زمن المشتتات والملهيات والفتن، والقرآن عزيز لا يقبل أن ينازعه في القلب شيء آخر، لذا على من يحفظ القرآن أن يقدمه على كل شيء في حياته ليجده حصنًا منيعًا له من الانزلاق إلى الهاوية والانحراف".