فلسطين أون لاين

تقرير "سلاف" لم تشبع من والدتها وتتمنى احتضانها مرة أخرى

...
القدس المحتلة-غزة/ مريم الشوبكي:

ما إن وصلت سيارة الإسعاف إلى بيت الشهيدة مي عفانة في بلدة أبو ديس في القدس المحتلة، مساء 23 من أغسطس/آب الجاري، وفتحت أبوابها لإخراج الجسد المسجى حتى أجهشت طفلتها الوحيدة "سلاف" بالبكاء، تداري دموعها باتكائها على كتفي والدها.

كان زوج الشهيدة حسين جفال يكفكف دموع سلاف (6 أعوام) "خلص يا بابا حبيبتي يا بابا" ودموعه تنهمر على خديه، يحاول أن يخفف وجع قلبه باحتضان الذكرى الوحيدة التي تركتها مي بعد استشهادها.

وضعوا نعش الشهيدة مي على الأرض، كشف والدها جزءًا من وجهها نزولًا على طلب حفيدته سلاف، فقبلته واحتضنت جسدها البارد، وأخذت تتحسس بيديها الصغيرتين جسدها الملفوف بالأبيض والذي يختفي تحت جريمة بشعة ارتكبها الاحتلال الإسرائيلي، حيث اخترقت أربع رصاصات جسدها.

استشهدت طبيبة الصحة النفسية والمحاضرة في جامعة الاستقلال في 16 يونيو/ حزيران من العام الفائت، حينما أعدمت بدم بارد بزعم "محاولة تنفيذ عملية طعن ودهس"، قرب قرية حزما شمال شرقي القدس.

حمل المشيعون جثمان الشهيدة "مي" ليوارى جثمانها في مقبرة البلدة، بينما حملت طفلتها اكليلًا من الورد سارت به خلف نعش والدتها ووضعته على قبرها، تقول سلاف إن الورد ذكرى منها لأمها التي تشعر بوجودها قربها، وأنها قرأت لها الفاتحة، ودعت لها بالرحمة.

تتذكر "سلاف" حينما كانت تأخذها أمها مي في نزهة بعد يوم شاق ما بين دراستها وعملها، لا ترفض لها طلبًا، تجلب لها ما طاب من الحلوى.

بلغة البراءة تقول: "ماما عند ربنا ولكن ما راح أتركك، أنا بحبك كتير".

بعد انقضاء المشيعين، فتحت سلاف قلبها لجدتها (والدة أمها) "تاتا ما شبعت من ماما تعالي نروح نطلعها من القبر علشان ألمس شعرها وجسمها".

تقول جدتها لـ"فلسطين": "فجأة أخبرنا بالإفراج عن جثمان مي، لم نكن نعرف ماذا نفعل، فسلاف عقلها كبير وتعي ما يدور من حولها، فحينما سمعت استعدادنا لتسلّم جثمان والدتها أصرت على الذهاب معنا للقائها".

وتتابع: "في البداية خشيت أن تصاب بصدمة نفسية بسبب رؤيتها لجسد والدتها، لذا لجأت لاستشارة اختصاصية نفسية نصحتنا بالسماح لسلاف برؤية جثمان والدتها لكي يخفف عنها حجم ألم الفقد".

وتردف الجدة: "سلاف ذات شخصية اجتماعية مقربة ومحبوبة من الجميع، فنتحدث معها كأنها صبية وليست طفلة، نقدم لها دائما الدعم النفسي حتى لا تتأزم حالتها النفسية بعد فقدانها لوالدتها التي كانت طفلتها الوحيدة والمدللة".

كانت سلاف في رعاية جدتها لأمها قبل يوم من استشهاد والدتها حيث غادرت المستشفى بعد أن مكثت يومين على سرير الشفاء في إثر معاناتها من التهابات في الأمعاء، وتركتها لجدتها لكي تعتني بها.

نامت مي ليلتها في بيتها، وخرجت في الصباح الباكر بعد أن ودعت زوجها الذي يعمل مدرسًا وبدأ إجازته الصيفية في اليوم ذاته، وقادت سيارتها متوجهة إلى عملها وفي الطريق غدر بها رصاص جيش يدعي أنه الأكثر أخلاقية في العالم.

أقسى حالات الفقد

البعض قد يلوم عائلة "سلاف" لإصرارها على وجود الطفلة في أثناء تشييع والدتها مي بعد 14 شهرًا من احتجازها في ثلاجات عالية التبريد لدى الاحتلال الإسرائيلي.

تبين الاختصاصية النفسية الاجتماعية إكرام السعايدة أن أقسى حالات الفقد التي يمر بها الطفل هي خسارة والديه، ولها مدلولات نفسية على المدى القريب والبعيد.

وتوضح السعايدة لـ"فلسطين" أن الطفل حينما يفقد والديه يفقد رمز الثقة، والأمان، فبعض الأطفال قد يدخلون في اضطرابات نفسية.

وعن إلقاء الطفل نظرة الوداع على والديه عند موتهما، تجيب: "على الأهالي إدراك أن من حق الطفل المشاركة في أحزان عائلته، وتفاصيل العزاء وإلقاء النظرة الأخيرة على الشهيد".

تتابع السعايدة: "ومن الأخطاء الفادحة التي يقع فيها الغالبية، الطلب من الطفل الجلد والثبات وعدم البكاء، وهذا خطأ عظيم فمن حق الطفل التعبير عن مشاعره بالكيفية التي يراها مناسبة بالبكاء، أو بالعزلة، أو الصراخ وعلينا تفهُّم أن هذه المدة عصيبة على نفسية الطفل".

وتلفت إلى أن الأهل يقع على عاتقهم تقديم الدعم النفسي، ومشاركة أقرانه في دعمه، وتسمى المشاركة الوجدانية الجماعية والتي تخفف من الحزن، وتلهمه الصبر والسلوان.

وتنبه السعايدة إلى أن الطفل يمنع من إلقاء نظرة الوداع على جثمان والديه إذا كانت ملامحهما مشوهة، أو قد تغيرت بسبب احتجازها لشهور طويلة، لأن هذا المشهد الأليم سينطبع في ذهن الطفل طوال العمر، ولن يمحى مع مرور السنين.

وبالإفراج عن جثمان مي عفانة، يقول منسق الحملة الوطنية لاسترداد جثامين الشهداء حسين شجاعية، إن جيش الاحتلال الإسرائيلي يواصل احتجاز 102 جثمان لفلسطينيين قتلهم منذ عام 2015، من بينهم جثمانا فلسطينيتان.

وفي عام 2019، أقرت المحكمة العليا الإسرائيلية احتجاز الجثامين، لاستخدامها ورقة مساومة مستقبلًا، بغرض مبادلتهم مع أسرى إسرائيليين تحتجزهم المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة منذ 2014.

المصدر / فلسطين أون لاين