فلسطين أون لاين

تقرير حارة الشرف.. جغرافية صامدة رغم تغيُّر السكان وتبدُّل الأحوال

...
حارة الشرف المقدسية - أرشيف
القدس المحتلة- غزة/ ضحى حبيب:

بدخولك حارة الشرف التي تسمى "حارة اليهود" اليوم ستبصر كل ما لا ينتمي إلى هذه الأرض، ولن تجد كثيرًا مما يدلك على تاريخها، لكن ستشدك رائحة كعك القدس من فرن آل أبو سنينة، ذلك الفرن الذي بقي صامدًا يُقدّم نوعًا من التراث المقدسي الأصيل. 

فرن آل سنينة هو أحد المعالم العربية الأصيلة المتبقية من حارة الشرف بعد أن استولى عليها الاحتلال، ودمر 70% من الآثار فيها، وسرق الـ30% المتبقية وحوّلها إلى مرافق يهودية. 

تاريخ موجز 

الشرف حارة إسلامية داخل حدود البلدة القديمة، تبلغ مساحتها أكثر من 133 دونمًا، وتقع في المنطقة الجنوبية من سور القدس إلى اليسار من باب المغاربة. 

يقول الباحث في تاريخ القدس روبين أبو شمسية: "يعود تاريخ حارة الشرف إلى العهد المملوكي، وسميت بهذا الاسم نسبة إلى شرف الدين موسى، وهو أحد سكان الحارة الذي كان يمتلك معظم المباني فيها، وأُطلق على ذريته التي بقيت في الحارة فيما بعد آل شرف". 

ويعدد أسماء عائلات سكنت الحارة منذ نشأتها كالبشيتي والنميري، والطويل، وجبران، وأبو سنينة، والسلايمة، وأبو السعود، والديسي، "وكان من أفراد تلك العائلات سدنة للمسجد الأقصى، وامتلك عدد منهم مبانٍ عدة حول المسجد، ومنهم من كانوا قائمين على سجلات المحكمة الشرعية في العهد المملوكي". 

ويشير أبو شمسية إلى أنّ الحارة اشتملت على عدة حارات صغيرة كحارة الحيادرة، وحارة سوق البطيخ والشاي، وحارات صهيون، والريشة، والبشاشتة، والعلمية، التي شكّلت مجتمعة الجزء الجنوبي الغربي لمدينة القدس. 

وتفيد المراجع التاريخية أنّ تسمية الحارة حارة اليهود تعود إلى موجات الهجرة اليهودية في عهد الاحتلال البريطاني، إذ استأجر عدد من المهاجرين اليهود بعض بيوت الحارة وسكنوا فيها حتى عام 1948 إذ هُدمت الحارة خلال الحرب، وخرج منها جميع السكان اليهود وبقيت على حالها خلال العهد الأردني.

وفي عام 1967 عندما سيطر الاحتلال عليها طُرد أكثر من 3000 من سكانها الفلسطينيين، ولم يبقَ إلا عدد قليل منهم، ودمر معظم منازلهم وبنى على أنقاضها بيوتًا لليهود تشبه القلاع، وحوّل بعض بيوتها الأثرية المتبقية إلى كُنس يهودية تُقام فيها صلواتهم. 

شواهد على الحضارة

أما عن المعالم التي بقيت شاهدة على الحضارة العربية والإسلامية في المكان فيقول أبو شمسية: "من الشواهد الباقية في حارة الشرف إلى هذا اليوم مسجد عبد الله بن عمر الذي بُني عام 70 للهجرة، ويغلقه الاحتلال أمام المصلين ويمنع رفع الأذان فيه منذ عام 2000م". 

ويضيف: "وبقيت في الحارة بعض المحال التجارية التي لا يزال يعمل أصحابها فيها إلى الآن، لكنها غير ناجحة اقتصاديًّا لأنها مغلقة معظم الوقت، بسبب ممارسات الاحتلال ضد أصحابها، واعتداءات المستوطنين عليهم والتعرض لهم بالأذى". 

وفي كتابه "حارة اليهود وحارة المغاربة.. صورة حية لما قبل سنة ١٩٦٧"، استعرض نظمي الجعبة 

عددًا من المعالم الأثرية في "حارة الشرف"، منها: ثلاثة مساجد وسوقان وثماني كنس ومستشفيان، وحدّد موقع كل معلم، وقدّم ملخصًا تفصيليًّا عن تاريخه ومكوناته المعمارية ومساحته واستخداماته ووضعه الحالي، ورصد اعتداءات الاحتلال على بعضها بالهدم أو المصادرة أو العبث، مثل: مسجد الديسي، وخان الشعارة، وكنيسة مريم الجديدة، وخان كنيسة القديسة مريم الألمانية، وتربة شرف الدين موسى العلمي.

وقف موروث

وعودةً إلى فرن آل أبو سنينة؛ يقول عمار صاحب أقدم فرن في حارة الشرف: "يعود تاريخ الفرن إلى العهد المملوكي، وهو وقف إسلامي، استأجره جدي وورثه عنه والدي وورثته عنه، وسأورّثه أبنائي من بعدي، بإذن الله". 

ويذكر عمار أنّ أحد المستوطنين عرض على والده بيع الفرن مقابل أيّ مبلغ يطلبه بالعملة التي يريد، لكنه رفض وأصر على موقفه، ودُفع له قبل ثلاث سنوات 40 مليون دولار مقابل بيع الفرن لكنه رفض أيضًا، ولا يفتأ يردد: "ليكن الموت إليَّ أسبق قبل أن أفكر في بيع هذا الفرن، أو التنازل عنه بأيّ مقابل كان". 

ويصف عمار الوضع الاقتصادي في القدس عمومًا وحارة الشرف خصوصًا بـ"الصعب جدًّا"، لقلة الفلسطينيين الذين يأتون لزيارة الحارة بسبب مضايقات المستوطنين، قائلًا: "مرت عليَّ أيام أخبز فيها 20 كعكة فقط، ولا تباع أيُّ واحدة منها، لكني بقيت صامدًا ومصرًّا على البقاء هنا"، فالفكرة ليست لقمة عيش، إنما صمود وثبات وتحدٍّ للمحتل بالوجود على هذه الأرض، كما يؤكد أبو سنينة.  

في الحارة الفلسطينية العتيقة تنتصب أقواس كبيرة لمبنًى ضخم، ظلت قائمة لتكون شاهدة على هوية المكان وأهله، تتاخم تلك الأقواس الفرن وتقابل المسجد من مسافة ليست بعيدة، تفضي أزقّتها إلى درج قديم يوصل إلى شارع السلسلة، يُعرف باسم "درج الطابونة"، ناله الطمس والتغيير أيضًا، لكنّ جغرافية المكان ظلّت صامدة رغم تغيُّر السكان وتبدُّل الأحوال.