وراء تاريخ زهرة المدائن الزاخر تقف عائلات شكلت رافعة للمدينة المقدسة، وأفرزت شخصيات كان لها أثر كبير في مسار القدس النضالي، ولها جهود كبيرة في الحفاظ على هويتها وتراثها وحضارتها، وقد تطرقت دراسات وأبحاث عدة بالتوثيق لتلك العائلات المقدسية العريقة.
فمن عائلات القدس مَنْ سكن بيت المقدس للمرابطة، ومنهم مَنْ دخلوها فاتحين مع الخليفة الراشد عمر بن الخطاب (رضي الله عنه) عام 15 هـ، ومنهم من دخلوها محررين مع الناصر صلاح الدين الأيوبي (رحمه الله) عام 583 هـ، ومنهم من هاجر إليها وسكنها بعد الفتح والتحرير تبركًا بها.
وفي دراسة بحثية أعدها المؤرخ الفلسطيني عادل مناع يوضح أن المدينة بين أحضانها جميع الملل، فكان فيها المسلم مع المسيحي مع اليهودي جنبًا إلى جنب، رغم أن الأكثرية الساحقة دومًا من سكان مدينة القدس كانت تتألف من المسلمين العرب، الذين وفدوا إليها جهادًا وحبًّا وتبركًا بها من أقطار إسلامية وعربية مختلفة، كالمغرب ومصر وسوريا والعراق وغيرها من دول آسيا وأفريقيا.
وتبين الدراسة المنشورة في موقع مؤسسة الدراسات الفلسطينية تحت عنوان: "النخب المقدسية: علماء المدينة وأعيانها" أن زعامة القدس تمثلت في الغالب بأسرة الحسيني التي تتربع على رأس الأسر اليمنية، وتربعت أسرة الخالدي على رأس الأسر القيسية، وقد تقلدت في الغالب عائلات الحسيني والخالدي أهم المناصب في القدس، واحتكروا الإفتاء ونقابة الأشراف ومشيخة الحرم ونيابة الشرع وباشكاتبية المحكمة الشرعية.
نسب عريق
والعائلات المقدسية تنقسم حسب الحقبة التاريخية التي قطنت فيها القدس إلى قسميْن: الأول عائلات مقدسية قديمة، وهي التي دخلت القدس محررة في ركاب الناصر الأيوبي أو بعده وتتابعت في دخولها واستقرارها في بيت المقدس، والثاني العائلات المقدسية الجديدة التي استقرت في القدس إبان الحكم العثماني لبلاد الشام.
ومن أشهر العائلات المقدسية عائلة الحسيني الذين يعدون أنفسهم أحفاد الحسين ابن الخليفة علي بن أبي طالب (كرم الله وجهه)، وزوجته فاطمة بنت النبي (صلى الله عليه وسلم)، ويتربعون على رأس عائلات النخبة المقدسية من علماء وأعيان منذ نهاية القرن الثامن عشر على الأقل، فنجحت العائلة في السيطرة خلال تلك المدة وما بعدها على ثلاث وظائف علمية، وهي: إفتاء الحنيفة، ونقابة الأشراف، ومشيخة الحرم القدسي، وفقًا لإفادة المؤرخ مناع.
إضافة إلى ذلك إن أبناء العائلة تقلدوا وظائف مهمة أخرى في التدريس والأوقاف العامة، مثل وقف النبي موسى وتنظيم الموسم والزيارة إلى هذا المقام سنويًّا، وتميزوا كذلك بالعلم والتجارة والقيادة.
ويقول: "إن آل الحسيني حافظوا على مكانتهم ونفوذهم بالقدس في العهود الأخيرة التي سبقت الانتداب البريطاني، فكان ذلك الأساس الطبيعي لتقلدهم قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية أيام الحاج أمين الحسيني إبان الانتداب".
ويذكر مناع عائلة الخالدي إحدى العائلات المقدسية الشهيرة التي يرتبط تاريخها بالقائد المسلم خالد بن الوليد الذي ينتهي نسبهم إليه، ومنهم من ينتهي نسبه إلى شيبة بن عثمان بن طلحة.
ويبين أن آل الخالدي تبوءوا مكانة مهمة في القدس، فعملوا في المحاكم الشرعية كتابًا ورؤساء لكتاب المحكمة، ونوابًا للشرع، وخدم كثير من حملة العمائم في الأماكن المقدسة، وإليهم تنسب المكتبة الخالدية التي تبعد عن المسجد الأقصى 100 متر.
ومن عائلات القدس عائلة الغوانمة التي لها أصول مغربية، وقد اشتغلوا في مشيخة الأقصى والخطابة والإمامة فيه والإفتاء في القدس، وغيرها من المناصب، وتولوا على مر العصور العباسية والأيوبية والمملوكية والعثمانية أرفع المناصب وأعلاها على الإطلاق.
وهناك أيضًا -تبعًا لحديث المؤرخ مناع- عائلة الدجاني التي يتصل نسبها بخير البريّة سيدنا محمد (صلى الله عليه وسلم)، فهي من ذرية الحسين بن علي، وعائلة العلمي ذات الأصول المغربية، وقد حافظت العائلة بشكل أو بآخر على مكانتها بين أفنديات القدس، على الرغم من تغير الأزمان وتقلب السياسات خلال العهد العثماني، وارتبط اسم هذه العائلة بالحركات الصوفية، وتقلد أبناؤها مشيختها، وأقاموا فروعًا لعائلتهم في غزة واللد والرملة، الأمر الذي عزز نفوذهم في كل فلسطين.
عائلات ثرية
ويلفت مناع النظر إلى وجود أسر مقدسية أخرى عريقة الوجود في المدينة أقل شهرة، جمعت بين العلم والمال، وتقلدت وظائف علمية وإدارية أقل مكانة ونفوذًا، وعايشت مراحل صعود وهبوط في مكانتها ونفوذها على مر الأجيال.
ويذكر منها: عائلة جار الله أبو اللطف التي وصل الجيل الأول منها إلى القدس خلال القرن الخامس عشر من تركيا، وخلال القرن التاسع عشر برز منهم علماء مشهورون تقلدوا مناصب الإفتاء للمذهبيْن الحنفي والشافعي، أما بعد الحملة الفرنسية على القدس فانتقلت المناصب التي بأيديهم إلى عائلات أخرى، واكتفوا بوظائف التدريس وخدمة المساجد.
وهناك أيضًا عائلة البديري الثرية التي تمركزت في منطقة باب حطة، والنشاشيبي التي لها تاريخ عريق يعود إلى عهد المماليك، لكن شأنها برز في أواخر القرن التاسع عشر حتى وصلوا إلى مرتبة منافسة لآل الحسيني، ليس في الزعامة المحلية فحسب، بل أيضًا في شأن قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية، وفقًا لإفادة مناع.
أما عائلة أبو السعود فعُرفت في القرن الثامن عشر أسرة صوفية انتسب بعض أبناؤها إلى طريقة الفقيه الحنبلي الشافي عبد القادر الجيلاني، وهي من العائلات المعروفة بالورع والتقوى في بيت المقدس.
وضمت القدس بين جنباتها عائلات أخرى كعائلة نسيبة الخزرجية العريقة، التي تحتفظ بمفاتيح كنيسة القيامة منذ عهد الخليفة الخطاب.
وهناك عائلات أخرى عريقة لا يتسع المجال لذكر جهودها في القدس كـ(الخطيب، والبشيتي، وآل قطينة، والعسلي، والطرزي، وأبو غوش).