خرج محمولًا على أكتاف الرجال يزفونه في موكبٍ مهيب، يرتدي عصبة "كتائب القسام" التي سُجن لأجلها 20 عامًا، رافعًا شارة النصر، وفي المنزل علت زغاريد النساء ما إن أنار المحرر أمجد السايح عتمة الانتظار والشوق والحنين التي بقيت تسيطر على مشاعر ذويه، تتعالى أصوات الفرح من مكبرات الصوت: "تزيني يا دارنا بالثوب الغالي.. واحكي هلا بأحرارنا رجعوا الغوالي".
عاد السايح الملقب بـ"أمير الكتائب" إلى منزله في نابلس شمالي الضفة الغربية المحتلة أول من أمس بعد انقضاء محكوميته، لكنّ ألمًا يعتصر قلبه، إذ ترك خلفه جثمان شقيقه الشهيد بسام الذي ارتقى بسبب الإهمال الطبي الإسرائيلي عام 2019، لتمتزج فرحة حريته بغصة الفقد.
"مهما وصفت فرحة الإفراج سأصف الشكل وليس المضمون، فحريتنا كبيرة لأننا نحب الحياة والأمل رغم كل المآسي والمنغّصات التي تركناها خلفنا، تركت جثمان أخي مقيدًا في ثلاجات الاحتلال، غادرت السجن وهناك أسرى يتحدّون عنجهية إدارة السجون وغطرستها، في ذكرى عملية نفق الحرية".. بهذا يستهل المحرر السايح حديثه لصحيفة "فلسطين" وصوته يمتزج ما بين الفرح والحزن.
يحمل معه رسالة الأسرى إلى شعبنا أنهم سيخوضون إضرابًا مفتوحًا عن الطعام، ويناشدون بالتمسك بالقدس والمسجد الأقصى وصد هجمات المستوطنين "فرغم أنّ رؤوس الأسرى شابت لكنّ معنوياتهم عالية، وستتحطم مخططات الاحتلال أمام صمودهم، فهم مشتاقون للحرية".
والدته البالغة من العمر ثمانية وسبعين عامًا وأقعدها المرض لم تستطع النهوض لاستقباله، فقد وجدها وقد رسم الزمن على وجهها تجاعيد السنين، لكنها رسمت بين تلك الخيوط ابتسامة فرح، فعانقها وقبّل قدميها اللتين لطالما كانتا تحملانها إلى السجون وتتنقّل بهما لرؤيته.
شقيقان وراء القضبان
في 8 أكتوبر/ تشرين الأول 2015 اعتقلت قوات الاحتلال بسام السايح ووجّهت له المحكمة على الفور تهمة الاشتراك في تنفيذ عملية "إيتمار" التي أسفرت عن مقتل مستوطن وزوجته، وفي السجن حرمه الاحتلال من استكمال علاج مرض السرطان.
لم يترك أمجد شقيقه بسام فريسة للمرض والاحتلال، فكان هو طبيبه يحاول مداواة جراحه وتسكين آلامه. تلتصق تفاصيل آخر أيام بسام في ذاكرة شقيقه أمجد: "كانت معنوياته عالية، في آخر يومين أجبروه على الخروج من عيادة سجن الرملة لمستشفى خارجي، وفصلوا بيني وبينه (..) أذكر آخر لحظات سلّمت عليه وابتسم لي، شعرت وهو يخرج للمشفى أنه آخر لقاءٍ بيننا".
قبل هذا اليوم كان بسام يموت موتًا بطيئًا عايش أمجد تفاصيله بكل لحظة: "كان كل يوم يمرُّ عليه أصعب من السابق، وساءت حالته دون أي تحرك من الاحتلال، وكنت متوقعًا استشهاده في أي لحظة، وها هم الأسرى المرضى يكتبون وصاياهم بصمتٍ وتحدٍّ، خاصة ناصر أبو حميد ومعتصم رداد".
بعد استشهاد بسام عام 2019، عزلت إدارة سجون الاحتلال أمجد وتركت الزنازين تواسي حزنه، لحظة قاسية تجدد ذكرياته: "مكثتُ ثلاثة أيام بمفردي، ومنعوا الأسرى من مواساتي وتقديم التعازي لي، فكانت أيامًا صعبة وقاسية".
ولأمجد إصدارات أدبية منها "بسمة وداع" و"حكايات مراش" و"خفقات رغم الرحيل" يتحدث فيها عن استشهاد شقيقه ومعاناته وعن عيادة سجن الرملة.
تحرر أمجد وهو يحمل في جسده رصاصتين منذ عام 2002؛ لحظة اعتقاله، وحتى اللحظة لم يستخرجهما رغم أنّ واحدة استقرت بين فقرات عموده الفقري، وظل يعاني بسببها، يقول في تحدٍّ: "نحن صامدون، صابرون، وفي كل مرحلة تختلف الأدوات، اعتُقلت وأنا مصاب، وكنت مع قادة العمل الوطني بالضفة الغربية، ولن يكسرنا الاحتلال".
لا يمكن جمع محطات امتدت على مدار عشرين عامًا بين دفّتي كتاب أو صحيفة، لكنه يختصرها قائلًا: "هناك سنوات مرت كأنها أيام ولم نشعر بها، وأيام مرت كأنها سنوات، وفي الحقيقة الحيز الزمني لبعض الأيام مرت أطول من حقيقتها، فِراق أخي كان أصعبها".
ما أكثر يوم لا تنساه مررت به؟ سُئل عام 2011 بعد صفقة "وفاء الأحرار"، ليجيب: "كان يوم الصفقة هو الأصعب، فهناك أسرى لم يفرج عنهم، وسُئلت عن أكثر الأيام التي ابتهجت بها فأجبت أنه يوم الصفقة أيضًا لأنها لحظات تحرر فيها أكثر من 1030 أسيرًا وأسيرةً".