فلسطين أون لاين

في الذكرى الثامنة لاستشهادهما

تقرير "العطار" و"أبو شمالة".. توأم المقاومة عاشا معًا وضمَّهما قبرٌ واحد

...
توأما المقاومة
غزة/ يحيى اليعقوبي:

اسمان لمعا على صدر التاريخ، وأسرجا دماءهما لإنارة طريق الحرية، وقفا معًا، كل منهما يشد عضده بالآخر، واشتد عضد فلسطين بقوتهما، كبر الجاران الطفلان وخرجا من حارة ومدرسة واحدة، تشاركا في الحجر الذي ألقياه على جنود ومستوطني الاحتلال، وخطَّا على جدران المخيمات شعارات رفض المحتل، ووزَّعا البيانات على الجماهير، ممارسين كل أشكال العمل المقاوم من صغرهما.

أسّسا منظومة عسكرية وأصبحا من أبرز قيادات كتائب القسام؛ الجناح العسكري لحركة المقاومة الإسلامية حماس، ونفّذا وخطّطا وأشرفا على عمليات فدائية أرَّقت الاحتلال وأوجعته، إلى أن استُشهدا معًا وضمهما قبرٌ واحد عليه شاهد واحد، ليختما مسيرة أخوة وصداقة ومقاومة فريدة من نوعها.

لم يكن التقاء القائدين رائد العطار ومحمد أبو شمالة إلا فرصةً لاتحاد عقلين فذّين كرّسا حياتهما لأجل وطنهما، فكبرا وكبر حب وطنهما بداخلهما، ومن الحجر الذي حملاه اشتريا مسدسًا مع بداية التسعينيات، ونفّذا عمليات فدائية كشفت عن عقليتهما الفذة، وأهّلتهما فيما بعد لقيادة مشروع المقاومة برفقة قادة آخرين.

حرمتهما المطاردة والملاحقة الإسرائيلية من إكمال الدراسة الجامعية، واشتدت مع قدوم السلطة عام 1994، إذ اعترضت سيارة تابعة للأمن الوقائي سيارة كانا يستقلّانها، وأُصيبا بإطلاق الرصاص عليهما، إذ دخل "أبو شمالة" غرفة الإنعاش وكان بين الحياة والموت، وأُصيب "العطار" في قدمه، وبعدها بعام اعتُقل "أبو شمالة" سبعة أشهر تعرض فيها لحالة تسمم شديد أُدخل على إثرها إلى المشفى، واعتُقل رفيق دربه خمسة أشهر.

ولادة ثانية

"قررت محكمة أمن الدولة الحكم على رائد العطار بالإعدام رميًا بالرصاص، ومحمد أبو شمالة بالأشغال الشاقة المؤبدة".. بهذا القرار قررت السلطة التخلص منهما، لكنها لم تدرك حجم تجذُّر محبة الرجلين في نفوس أبناء شعبنا الذي شكّل حاضنة لهما، فخرجت مظاهرات واحتجاجات متواصلة قمعتها أجهزة أمن السلطة واستُشهد مواطن في إثر ذلك، ما أجبر الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات آنذاك على التدخل ووقف القرار الذي صدر في العاشر من مارس/ آذار 1999.

وظهرت بصمات الرجلين واضحة في الإشراف على العديد من العمليات الكبرى في انتفاضة الأقصى، كعمليات "براكين الغضب" و"محفوظة" و"حردون" و"ترميد" و"الوهم المتبدد"، كما كانا من أبرز القادة في معارك "الفرقان" و"حجارة السجيل" و"العصف المأكول".

وتزيّنت صورة النصر الكبير للمقاومة في صفقة "وفاء الأحرار" بصورة العطار إلى جانب الشهيد القائد أحمد الجعبري نائب القائد العام لكتائب القسام، وهما يُسلّمان الجندي جلعاد شاليط للجانب المصري، في حين نشرت القسام لـ"أبو شمالة" -عقب استشهاده- صورًا يظهر فيها وشاليط أسيرًا في قبضة "وحدة الظل" التي حافظت عليه أسيرًا حتى صفقة التبادل، ليلقي ذلك الضوء على دور القائدين في تمريغ أنف الاحتلال في التراب وإثبات فشله الاستخباري الفادح.

"ثلاثة على ثلاثة كل الأهداف مستباحة".. كانت إشارة من القائد العطار بإعلان حالة الاستنفار في صفوف أبناء القسام عام 2012 عقب اغتيال الاحتلال القائد الجعبري، وفي كل ذكرى له يستذكر الفلسطينيون صاحب هذا الصوت الذي أرعب الاحتلال وجعله يهرول آنذاك لوقف إطلاق النار.

تعرضت منازلهما للقصف في كل الحروب على غزة، في أعوام 2008 و2012، و2014 التي لقّنا الاحتلال فيها درسًا قاسيًا بأسر الجندي هدار غولدن.

يوم 21 أغسطس/ آب 2014 اهتزت رفح على صوت تسعة صواريخ سقطت على بيت في منطقة "تل السلطان" تبيَّن أنّ العطار وأبو شمالة كانا فيه، واستشهدا برفقة رفيق دربهما محمد برهوم، وشُيّعوا في جنازة مهيبة.

الذكرى الثامنة

"مع أنني كنت قريبة من مكان الاستهداف لم أسمع صوت الانفجار، في عصر ذلك اليوم استيقظَت طفلتي وهي تنادي: ماما، بابا استشهد، وردّدت الجملة فنهيتها عن تكرارها، فلا أريد سماع ذلك"، تطل فريال أبو شمالة زوجة القائد الشهيد من نوافذ الذاكرة على لحظات استقبالها جريمة الاغتيال.

تقول لصحيفة "فلسطين": "كزوجة شهيد، وفي الذكرى الثامنة لاستشهاد (أبو خليل) ونحن نحيي أثره وتاريخه ومجدًا سطّره بدمائه، فهو لم يعد ذكرى، بل هو حاضر في قلوبنا وقلوب أبنائنا وأبناء شعبنا وقادته، لنؤكد أننا سنكمل المسير من بعده وأننا باقون على العهد نقتفي أثره الطيب ونحافظ على السمعة الطيبة التي ورثناها منه، ونزيده إشراقًا ونورًا".

"أبو شمالة" هذا القائد الذي تولّى مراتب عليا في كتائب القسام وكان عضوًا في المجلس العسكري "كان إنسانًا عطوفًا رحيمًا متفهمًا، يجتهد في اقتناص الفرص ليعوضنا عن الأيام التي يحدث فيها تصعيد أو في الأيام التي يغيب فيها عنا أسبوعًا أو أسبوعين أو أكثر، فكان خيره لأهله" تضيف زوجته.

ابنته "ربا" التي لم تتجاوز 12 عامًا لحظة استشهاده، صارت في السنة الدراسية الثالثة لطب الأسنان "رسمت هي ووالدها هذا الحلم، وكان يقول لها حلمي أن أرى لك عيادة مكتوب عليها: ربا محمد أبو شمالة، وقد بقي سنوات قليلة لتحقيق الحلم".

عاصرت "أم خليل" علاقة الأخوة والصداقة التي جمعت القائدين، تصفها بأنها "علاقة لم يسبق لها مثيل في تاريخ الثورة الفلسطينية بأن يكونا جارين ثم زميلين في الدراسة فمطاردين فقائدين بمسيرة جهاد مشتركة تُوجت باستشهادهما معًا ليضمهما قبر واحد عليه شاهد واحد يحمل اسميهما".

تستذكر حوارًا دار بين الرفيقين في أيام معركة "العصف المأكول": "عندما تنقّلا من بيت لبيت قال العطار لرفيقه أبو خليل: احنا طالعين على شهادة، فردّ عليه: لم نستشهد في معارك الفرقان ولا السجيل، ولا حتى في هذه المعركة (العصف المأكول)، يجب علينا مراجعة أنفسنا، فلم تمر لحظات حتى قُصف البيت الذي كانا فيه واستُشهدا برفقة صديقهما برهوم".